وقد تقدم أن بريطانية المستعمرة في الهند تميل دائما إلى جانب الضعيف الخائف حين يثور في وجهها القوي فتدعي حمايته وتشاغب بذلك على مطالب القوي. ولذلك رأينا بريطانية في هذه الأوقات تنوه بحقوق المسلمين وتجدد ذكر قضية (باكستان) وتعتذر عن قبول طلب غاندي منها الخروج من الهند بالخوف على حقوق المسلمين. وقد قال أحد المعلقين في راديو لندن ما ترجمه فإن بريطانية يسرها أن تری الأمة الهندية متمتعة بحریتها ووحدتها. هذه هي رغبة بريطانية، لكن إذا كانت الوحدة خطرا على حرية بعض شعوب الهند فالمحافظة على الحرية مع التقسيم أولى من الوحدة مع ضياع الحرية.
وكان رئيس العصبة الإسلامية جناح متأنيا حين أجمع غاندي وحزبه على طلب إخلاء الهند من بريطانية فكان للبريطانيين في ذلك متكأ وأي متكأ، وقد جاءت الأخبار آخر الأمر أن رئيس العصبة الإسلامية قد وافق على طلب خروج البريطانيين من الهند فلا ندري ما حمل جناحا على موافقة قرار حزب المؤتمر. فهل أخذ مواثيق سرية من جهة ما جعلته مطمئنا على حقوق المسلمين؟ الظاهر نعم. وعلى كل حال صارت موافقة هذا الرئيس على البريطانيين ضغثا على إبالة. لأنه كان التكأة الوحيدة التي بقيت لهم. وكان المسلمون حتى الآن غیر مشاركین في الإضراب والمظاهرات الأخيرة. فإن صح ما روي من موافقة رئيسهم فسيشتركون هم أيضا في المظاهرات. أما وجهة البريطانيين فمعروفة وهي المقاومة القهرية لكل حركة تصدر من الهنود وقد حاول المارشال تشانكاتشيك أن يتوسط بين الهنود والبريطانيين فاخفق في سعيه. ويقال أنه رجع ساخطا على حلفائه البريطانيين وعاطفا على حركة الهنود وهذا الخبر روي بإسناد ياباني فلابد من التروي فيه وإن كان الظاهر صدقه. ويقال أن روزفلت يريد هو أيضا أن يتوسط بين الهنود وبريطانية، وقد أخذت الدوائر الأميركية في الشرق تمهد لذلك بقولها: إن أمريكة لا غرض لها في الهند ولا تتدخل في النزاع القائم بين بريطانية والهنود. إلا إذا وقع اعتداء منهم على رعاياها اور جنودها، فانها تقابله حينئذ بالمثل. والظاهر أن توسط روزفلت إن صح عزمه عليه ان يكون أسعد حظا من توسط تشانكاي تشيك، لان غاندي عنید إذا عن على شيء لا يرده عنه وعد ولا وعبد، ولان غاندي لا يثق بوعود روزفلت ولا بضمانه الأكما يثق بوعود تشرتشل وكريبن. وعلى هذا فسيق الحال كما هي عليه، ولعل اليابان لا تنتظر إلا مضي نصل الأمطار في الهند وموعد انقضا له شعر اكتوبر. فإذا هجمت اليابان على الهند في أواخر خريف هذه السنة مع وجود هذه الثورة الهندية – فإن دفاع بريطانية سيكون شاقا جدا.
قضية باكستان
أولا ينبغي أن نشرح هذا اللفظ. معناه باللغة الفارسية والهندية: موضع الطهارة أو المكان الطاهر أو المقدس، لأن (باك) معناه الطاهر والمقدس و(ستان) معناه المكان كما في كلمة (بستان) المعربة من الفارسية وهي مركبة من بو = جميل وستان = مكان. وقد أطلق هذا اللفظ واضعه وهو زعيم هندي مسلم من بنجاب، ومن جلة أصحاب الرئيس محمد جناح أطلقه على الإيالات الخمس الغربية من الهند وهي بنجاب وكشمير والسند وولاية الحدود الأفغانية وبلوجستان. وكل حرف من حروف باكستان يدل على إيالة. والألف والنون يدلان على بلوتشستان. وقد نسيت اللفظة التي تدل عليها التاء ومعناها لا شك ولاية الحدود الأفغانية. ولها اسم آخر يبدا بالتاء نسيته الآن. وقد شد إلي الرحلة صاحب هذه الفكرة وهو الاستاذ المحامي السيد رحمة علي من مستقره بكيمبرج في البلاد البريطانية إلى مدينة (بن) في جرمانية في سنة 1356. وطلب مني المساعدة بالدعاية لقضية باكستان فأجبته لذلك بدون مقابل، بل مساعدة لإخواننا المسلمين الهنود، ونشرت مقالات في الصحف العربية الشرقية، فانبرى للرد علي تلميذي الأستاذ مسعود الندوي البهاري فتساجلت معه حتى تبين الحق وسكت.
وملخص هذه القضية أن هذه الولايات الخمس متصلة بعضها ببعض. وعدد سكانها نحو ثلاثين مليونا. أكثرهم مسلمون. وقد تقدمت نسبتهم المئوية. ولكن نعيدها هنا لئلا يتكلف القاريء مراجعتها. فعدد المسلمين في بنجاب 52 في المائة. وعددهم في السند كذلك وعددهم في كشمير 83 في المائة. وفي ولاية الحدود الأفغانية 90 في المائة. وفي بلوجستان نسیت عددهم، ولكن الأكثرية الغالبة بلا شك لهم. ويحد هذه البلاد من الغرب المحيط الهندي. ومن الجنوب عمان من بلاد العرب. ومن الشمال أفغانستان سفوح جبال هملايا. ومن الشرق محمية راجبوتانا، وهذا تحديد تقريبي. وتحقيقه سهل على القاريء فلا يحتاج إلا أن ينظر إلى تخطيط البلاد الهندية من جهة الغرب والشمال الغربي فيجد تفصيل ذلك.
وأصحاب هذه الفكرة يطلبون من بريطانية استقلال هذه البلدان لتكون دولة إسلامية لا علاقة لها بالهند أصلا. ويقيمون الحجج على أن سكان هذه الإيالات ليسوا مثل سكان الهند وهم مباينون لهم في اللغات والجنس والعقيدة والأجسام والعادات. فلا معنى لربطهم بهم. ويقولون إن إطلاق اسم (الهند الإنكليزية) على هذه البلدان وغيرها هو اصطلاح استعماري انكليزي لا يمت إلى الحقيقة بصلة. ولهم وفد في بريطانية يعمل لهذه القضية منذ عشر سنين لم يملوا ولم يكلوا، وقد بذلوا أموالا كثيرة وصارت قضيتهم معروفة عند البريطانيين، وقد بذلوا الجهود حتى أثبتوا مادة باكستان في دائرة المعارف الإسلامية أي في ملحقها الانكليزي. ومع أن لهم أنصارا لم اسمع لباكستان ذكرا في الاذاعة الانكليزية إلا في هاذين اليومين بعدما شاع ان رئيس العصبة الإسلامية محمد جناح وافق على قرار غاندي. فكأن البريطانيين حين رأوا المسلمين يريدون ان يفلتوا من أیدیهم وهم أملهم الأخير أرادوا أن يستميلوهم بفتح المفاوضات من جديد في مسألة باكستان فيكونون في ذلك مثل جحا. زعموا أنه رأى رجلا في المنام قد ناوله كیسا ملآنا دنانير. فأخذه جحا وعد الدنانير فوجدها تسعة وتسعين. فالتفت إلى الرجل وقال زدنی دینارا لتتم المائة، فإني منذ زمان أسال الله أن يرزقني مائة دينار فأبى الرجل أن يزيده شيئا فأخذ يخاصمه فاستيقظ ولم يجد شیئا في يده فغمض عينيه ومد يديه وقالها الكيس فقد رضيت الآن بتسعة وتسعين دينارا. فكذلك البريطانيون لم يجيبوا طلب المسلمين وهم يستعطفونهم منذ عشر سنين. والآن أرادوا أن يجيبوهم بعدما انحرف عنهم جميع الهنود حتى المسلمون. لقد تأخروا كثيرا.
ولا يزال بعض المسلمين مع حزب المؤتمر فأبو الكلام آزاد رئيس حزب المؤتمر هو من أعيان المسلمين. وهو خطيب مصقع لا نظير له في الهند ولبلاغته الساحرة في الخطابة سمي أبا الكلام وآزاد باللغة الفارسية والهندية معناه الحر لقب بذلك لأنه يقول الحق في خطبه ولا يخشى في ذلك أحدا. ثم هو مؤلف وكاتب مجید ونابغة وأصله من العرب، وقد اعتقله البريطانيون مرارا. ولولا أن فكرة المؤتمر وهي استقلال الهند على أساس حكومة مركزية لجميع البلاد الهندية قد غلبت عليه وتمكنت منه حتی صار لا يلتفت إلى سواها لما كان غيره زعيما للمسلمين في الهند. وقد تعرفت بهذا الزعيم ونزلت ضيفا عليه في داره بمدينة كلكته (ولا تقل كلكوتا فهو جهل) سنة 1342 وبقيت عنده عشرة أيام. وسألني عن أحوال المغرب. وكان يظن أن اللغة البربرية هي عربية محرفة قليلا. فأخبرته أنها لغة مستقلة مثل التركية والفارسية. فتعجب من ذلك وطلب مني أن أكتب مقالات في أحوال البربر فكتبتها ونشرها في صحيفته وكانت له إذ ذاك صحيفة عربية نسيت اسمها الآن. وإنما توسعت في ترجمة أبي الكلام آزاد لجهل عامة القراء بهذا الزعيم حتى أن بعض الإذاعات لم تعرف اسمه فسموه عبد الكريم وعبد الكلام.
هذا ونسأل الله أن يجمع شمل المسلمين أينما كانوا وينقذهم من جهنم العبودية إلى جنة الحرية في دينهم ودنياهم إنه سميع مجيب.
صحيفة الحرية، السنة 6 العدد 829، 15 شعبان 1361هـ / 28 غشت 1942م – ص: 1