تقويم اللسانين مستقيم
وقد عدلت في تعديلك عن العدالة
(3)
7- قال المعترض: وقال: (فإن من كان عالما بالنحو في أي لغة كانت يتخذه مصباحا) وهذا التعبير كان أولى من غيره بتقويم اللسانين، فإن مراده: من كان عالما بنحو لغة من اللغات يتخذه مصباحا، (أيا) هذا الاستعمال الغريب، وظن أن الضمير في (كان) يعود إلى اللغة، فألحق به تاء التأنيث، مع أن الفعل ينبغي أن يكون للعلم المفهوم من اسم الفاعل وبيان ذلك من كان عالما بنحو لغة كائنا ما كان هذا العلم بالنحو، فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال (من كان عالما بلغة أي لغة كانت) فالفعل الذي يأتي بعد (أي) يعود ضميره إلى الإسم الذي قبلها، وهذه أدنى مراتب الصحة أو دنياها. اهـ.
أقول:
قولى: في (أي) لغة كانت ـ جار ومجرور، في محل نصب متعلق بمحذوف حال من النحو، وكانت فعل تام، وفاعله ضمير مستتر جوازا، تقديره: هي، يعود على اللغة، وهذه الجملة في محل جر صفة للغة، وهذا كلام مستقيم لا إشكال فيه.
وما قدره وزعم أني أردته باطل لم أرده.
وقوله (فإذا أراد اللغة وجب تقديمها فيقال: من كان عالما بلغة أي لغة كانت) أنا لم أرد العلم باللغة، وإنما أردت العلم بنحوها، ولو أردت العلم بها لما وجب تقديم الموصوف مذكورا، فقد تقدم ما يشفي العليل، ويروى الغليل في جواز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة وتقدمت الشواهد على ذلك. فمعنى كلامي: من كان عالما بالنحو في أي لغة كيفما كانت، وهو واضح لكل ذي قلب سليم.
8- قال المعترض: وقال (ينتفع أهل الأرض بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك) فكيف نصل (إلى غير ذلك) بالجملة، وهي لا تحتاج إلى (إلى) التي هي منتهى لابتداء الغاية، فلو قال (من ضوئها ودفئها إلى غير ذلك لصح التعبير، فالصواب: العطف (وغير ذلك) فتكون الجملة (بضوئها ودفئها وإنضاجها للثمار إلى غير ذلك) اهـ.
أقول: ومن قال أن (إلى) محصورة في انتهاء الغاية، ولو درست كتابا من كتب النحو المتوسطة لعرفت أن لها معاني أخرى غير انتهاء الغاية فدونك ما قاله الاشموني في شرحه لألفية ابن مالك في معاني (إلى).
قال الاشموني: وأما (إلى) فلها ثمانية معان: الأول انتهاء الغاية مطلقا كما تقدم. الثاني المصاحبة نحو (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم). الثالث، التبيين، وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعدما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل نحو (رب السجن أحب إلي)، الرابع موافقة اللام نحو (والأمر إليك)، وقبل انتهاء الغاية، أي منته إليك. الخامس موافقة في، نحو (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) وقوله:
فلا تتركني بالوعيد كأنني *** إلى الناس مطلي به القار أجرب
السادس موافقة من كقوله
تقول وقد عالبت بالكور فوقها *** أيسقى فلا يروى إلي ابن أحمرا
السابع موافقة عند كقوله
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره *** أشهى إلي من الرحيق السلسل
الثامن: التوكيد، وهي الزائدة اثبت ذلك الفراء مستدلا بقراءة بعضهم (أفئدة من الناس تهوى إليهم) بفتح الواو، وخرجت على تضمين تهوى معنى تميل.. اهـ
وقال ابن منظور في لسان العرب: وتكون (إلى) بمعنى (مع) كقوله تعالى (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) معناه مع أموالكم. وكقولهم: الذود إلى الذود ابل. وقال الله عز وجل (من أنصاري إلى الله) أي مع الله. وقال عز وجل (وإذا خلوا إلى شياطينهم) اهـ.
فظهر أن استعمالي (لإلى) بمعنى (مع) صحيح مستقيم، وأن انتقاد المعترض سقيم.
9- قال المعترض: وقال (ورنقت صفو زلاله المعين مما يسوء كل طالب علم) فمن هنا للبيان والتفسير فكيف يكون الزلال المعين مما يسوء كل طالب؟ وإذا عددناها للتعليل يكون ترنيق الصفو بسبب ما يسوء كل طالب علم، وهو غير مراد الكاتب، فالصواب: وذلك مما يسوء كل طالب علم) على الابتداء والأخبار.
أقول: لم أقصد (بمن) بيانا ولا تعليلا، وإنما قصدت أن ترنيق الصفو مما يسوء كل طالب علم، الخ. فهي هنا للتبعيض، والمبتدا محذوف، التقدير: وهو أي الترنيق، مما يسوء، الخ. وهكذا يفهم أولوا الألباب أجمعون.
10- قال المعترض: وقال في الكاف التي سماها استعمارية (وهذا الاستعمال دخيل لا تعرفه العرب) أراد: لم تعرفه العرب، وإلا فإن العرب عارفة به، فالمراد نفي الماضي لا المستقبل. جاء في الصحاح (لا) حرف نفي لقولك: يفعل: ولم يقع الفعل، إذا قال: هو يفعل غدا، قلب: لا يفعل غدا، ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت، أو عوض عن تكرارها، وليس هذا موضع الجدال، لان الفعل في الجملة المنقودة مضارع جعلته (لا) للاستقبال، مع أن المراد نفي معرفة العرب قديما. اهـ
أقول: من الشائع الذائع في كتب النحاة، وعلى ألسنتهم: العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك فهل معناه: لن تبدأ ولن تقف؟، بل المراد أنه ليس من عادتها ولا من شانها أن تفعل ذلك، فالمعنى غير مقيد بالمضي، ولو قلنا: لم تبدأ ولم تقف لم يحصل المراد.
وكلام الصحاح قد ساء فهم المعترض له، فإن قوله: (لا يفعل غدا) لا يدل على أن (لا) هي التي عينت الفعل للاستقبال، بل القرينة (غدا) هي التي عينته له، قال ابن بونا في ألفيته:
واجعل في الاستقبال الأمر واقعا *** وقل به والحال فيما ضارعا
قال الناظم نفسه في شرح هذا البيت: أي المضارع ولو نفي (بلا) خلافا لمن خصصها بالمستقبل، ومن وروده مع (لا) للحال قوله تعالى (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) اهـ.
فهذه حكاية حال ماضيه، وهي تحكي بالمضارع كما رأيت شاهده في كتاب الله، ولكن فهم المعترض منحصر في دائرة ضيقة لأنه لم يأت البيوت من أبوابها.
وقال ابن منظور في لسان العرب في الكلام على (لا) ما نصه: قال الليث: العرب تطرح (لا) وهي منوية كقولك: والله أضربك، تريد: والله لا أضربك، وأنشد:
وآليت آسى علـى هالــك *** وأسأل نائحة مــا لهـــا (اهـ)
فقول الليث وهو من أئمة اللغة: والعرب تطرح (لا) هو كقولي أنا (لا تعرفه العرب) إلا أن الفعل في كلامه مثبت، وهو في كلامي منفي (بلا)، وقد تقدم أن (لا) لا تعينه للاستقبال فبطل كلام المعترض.
وقال ابن منظور أيضا: التهذيب: قال الفراء: والعرب تجعل (لا) صلة إذا اتصلت بجحد قبلها. وقال الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله دينهم ***وإلا طيبان أبو بكر ولا عمر. اهـ
ومثل هذا في أقوال أئمة اللغة كثير.
وقوله (وإلا فان العرب عارفة به) من أعجب العجب، هل يستطيع أن يأتينا بدليل على أن العرب كانت تعرف الكاف الإستعمارية وتستعملها في كلامها؟ فأنا أتحداه أن يأتي بشاهد واحد عن العرب، بل لا يستطيع أن يأتي بدليل من كلام المولدين الذين جاءوا بعد العرب، ولا يجده أبدا قبل هذا الزمان النحس، زمان الاستعمار المادي والسياسي واللغوي. والذي يؤسفني أن هذا المعترض يعلم يقينا أن هذه الكاف هي ترجمة (Comme) بالفرنسية، و (As) بالإنكليزية، و (Als) بالجرمانية، وأن هذه الكلمات تأتي في هذه اللغات قبل الحال، وقد تأتي قبل غيرها، وتأتي للتشبيه أيضا، فاستعملها المترجمون استعمالا فاسدا، وهو يعلم فساده، ويجادل بالباطل عمدا ليغمط غيره ويبخسه حقه، وينصب لنفسه عرشا يجلس عليه، ولم يدر أن من رام أن يرتفع بالباطل خفضه الحق، ولو أنه لم يجادل إلا فيما لا يعرفه ، وقصر عنه فهمه لهان الخطب وما أحسن ما قال ذو الاصبع العدواني:
الله يعلمني والله يعلمكم *** والله يجزيكم عني ويجزيني
قوله (ولا تنفي الماضي إلا إذا كررت) باطل، فقد جاء الفعل الماضي في كلام العرب منفيا (بلا) غير متكررة، قال الشاعر:
ردوا فو الله لاذدناكم أبدا *** ما دام في مائنا ورد لورّاد
قال العلامة المحقق أحمد بن أمين العلوي الشنقيطي في الدرر اللوامع شرح شواهد همع الهوامع للسيوطي بعد إيراد البيت المتقدم: استشهد به على تعيين الماضي المنفى (بلا) للاستقبال.
ذدناكم، كففناكم، وهو بالذال لا بالزاي، ولم أعثر على قائله. اهـ
واستشهد به أيضا على ذلك ابن بونا في حاشية ألفيته. واعلم أيها القارئ الكريم أن المضارع في كلام العرب يأتي بمعنى الماضي في مواضع، وأن يأتي للحال وللاستقبال بشروط وقرائن ذكرها السيوطي في همع الهوامع شرح جمع الجوامع له، وذكرها ابن بونا في ألفيته. وأظن أن المعترض لم يسمع بهذين الكتابين، فضلا عن أن يدرسهما، وحسبه ما كتبه القسيس (انسطاس الكرملي) والقسيس بلوت الفرنسي، فبهما يصول ويجول، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
11- قال المعترض: وقال (بين غث وسمين، وكدر ومعين) ظانا أن المعين هو الصافي والرائق مع أنه الجاري، وقد يكون الجاري رائقا أو كدرا بحسب أرضه وجريته ومنبعه وعينه وما يحدث فيه. اهـ
أقول: صدق المعترض، فإن المعين هو الذي تراه العين، كما قال البيضاوي، وهو الماء الجاري، ولكن أكثر الماء الجاري، وهو البحر يكون صافيا على الدوام ولا يتكدر، فإن قيل: أن البحر غير جار، نقول: بلى، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي كان يقوله إذا رأى قرية: اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما اقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب البحار وما جرين، ورب الرياح وما ذرين، الحديث، وإذا علمت أن ثلاثة أرباع الأرض يغطيها البحر، وأن الأنهار في أغلب الأوقات صافية، وكذلك العيون جارية، ولا تكدر إلا عند نزول الأمطار وسيلان الأودية تعلم أن الجريان يلازم الصفاء، والتعبير باللازم إارادة الملزوم شائع في كلام البلغاء، والقرينة لا تبقى شكا في أني أريد الصافي، وكذلك قول الشاعر:
إن حمامنا الـذي نحــن فيـه *** أي مـاء بــه وأيـة نــــار
قد نزلنـا بـه على ابن معيـن *** وروينـا بـه صحيـح البخـارِ
قوله (على ابن معين) فيه تورية، فالمقصود هو الماء المعين الصافي في الحمام، والمعنى الذي ورى به هو الإشارة إلى الإمام الحافظ أحد أئمة الجرح والتعديل يحيى بن معين. وفي قوله صحيح البخاري تورية أخرى، فإن المقصود بخار الحمام، والتورية بصحيح الإمام الحافظ أمير المؤمنين في الحديث أبي عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري. ومن المعلوم أن ماء الحمام غير جار، ولكنه عبر باللازم وأراد الملزوم. والمناقشة في مثل هذه الصغائر من الشطط، والتماس العيوب للبراء.
12- قال المعترض: وقال (وستأتي في هذه المقالات إن شاء الله أمثلة عديدة توضح ذلك) أراد بعديدة (كثيرة) مع أن العديدة هي المعدودة، قليلة كانت أو كثيرة، واستعمال (أمثلة) جمع القلة مع إرادته الكثرة، فالصواب مثل كثيرة. الخ.
أقول: صدق المعترض في قوله: إن العديدة، يراد به المعدودة، سواء أكانت قليلة أم كثيرة، إلا أن القرينة التي فهم بها هو الكثرة كافية لجعل القارئ يفهم الكثرة. واستعمال اللفظ في أحد مدلوليه مع القرينة الصارفة عن إرادة المدلول الآخر شائع في كلام البلغاء جار على الأصول، لا سبيل إلى إنكاره فلا يعد عيبا ولا خطأ.
على أن ابن منظور في لسان العرب قال ما نصه: والعديد: الكثرة. اهـ. وإذا كان العديد هو الكثرة، فلتكن العديدة كذلك، وعلى ذلك أقول: لو كان اعتراض هذا المعترض كله مثل هذين الاعتراضين الأخيرين لتلقيته بكل سرور، ولكن أكثره كان الباعث عليه القصور وسوء الفهم؟، أو إرادة السوء والغش المتعمد للقراء.
وأما قوله: أن (أمثلة) جمع قلة، فقد تقدم الكلام عليه مستوفي في الجواب عن النقد الثالث.
13- قال المعترض: نعود إلى الكاف الاستعمارية التي جرب استعمالها في قول القائل (فلان كوزير لا ينبغي له أن يتعاطى التجارة) لأنه استعمال دخيل، مع أنه ذكر من معاني الكاف (التعليل) فإذا قلنا: فلان لأنه وزير لا ينبغي أن يتعاطى التجارة، كان المراد مضمونا والمعنى واضحا. اهـ
أقول: إنني لا أحسن استعمال هذه الكاف، ولله الحمد، لأن طبعي يأباها كما يأباها طبع كل كاتب تعزف نفسه عن استعمال الألفاظ الدخيلة الاستعمارية التي غزت لغة الضاد، وأفقدتها جمالها وفصاحتها، وأنا لا أعتقد أن المعترض يجهل هذا، ولكنه ركب رأسه وحاد عن سواء السبيل بقصد أن يهدم ما بنيته من صروح الإصلاح فهدم نفسه كما قال المتنبي:
وكم من مريد ضره ضر نفسه *** وهاد إليه الجيش أهدى وما هدى
وزعمه أن الكاف الاستعمارية تؤول على أنها للتعليل زعم عليل، فقولنا: فلان كوزير لا يجوز له أن يتعاطى التجارة، لا يفهم منه أحد أن الكاف للتعليل إلا إذا كان فمهه عليلا، فاسمع أيها المعترض ما يقوله ابن هشام في المغنى:
(الكاف المفردة) جارة وغيرها، والجارة حرف واسم، والحرف له خمسة معان: أحدها التشبيه نحو: زيد كالأسد. والثاني: التعليل، أثبت ذلك قوم ونفاه الأكثرون، وقيد بعضهم جوازه، بأن تكون الكاف مكفوفة بما، كحكاية سيبويه، كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه. والحق جوازه في المجردة من ما نحو: (وي كأنه لا يفلح الكافرون) أي أعجب لعدم فلاحهم، وفي المقرونة بما الزائدة كما في المثال، وبما المصدرية نحو: (كما أرسلنا فيكم) الآية. قال الأخفشي: أي لأجل إرسالي فيكم رسولا منكم فاذكروني، وهو ظاهر في قوله تعالى (واذكروه كما هداكم) وأجاب بعضهم بأنه من وضع الخاص موضع العام، إذ الذكر والهداية يشتركان في أمر واحد، وهو الإحسان. فهذا في الأصل بمنزلة (وأحسن كما أحسن الله إليك) والكاف للتشبيه ثم عدل عن ذلك للإعلام بخصوصية المطلوب.
وما ذكرناه في الآية من أن ما مصدرية، قاله جماعة وهو الظاهر. وزعم الزمخشري وابن عطية وغيرهما أنها كافة، وفيه إخراج الكاف عما ثبت لها من عمل الجر لغير مقتض، واختلف في نحو قوله:
وطرفك إما جئتنا فاحبسنه *** كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فقال الفارسي: الأصل، كيما، فحذف الياء. وقال ابن مالك: هذا تكلف، بل هي كاف التعليل، وما الكافة، ونصب الفعل بها لشبهها بكي في المعنى. وزعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى (بنزهة الأديب)، أن أبا علي حرف هذا البيت، وأن الصواب فيه:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا *** لـكـي يحسبـواـ البيـت
شرح الغامض على بعض القراء من كلام المغنى.
قوله (جارة وغيرها) أي الكاف المفردة، منها كاف جارة، ومنها كاف غير جارة.
قوله (كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه) المعنى: تجاوز الله عنه، لأنه لا يعلم، أي غفر له لعدم علمه، أن ما فعله ذنب.
قوله (كما في المثال) يعني المتقدم من حكاية سيبويه، وهو (كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه)، فالكاف للتعليل، وما زائدة، والمصدر المؤول من أن وما بعدها فاعل لفعل محذوف تقديره: ثبت، هكذا أعربه الأمير في حاشيته على المغنى والتقدير: لثبوت عدم علمه سامحه الله فتجاوز عنه، والذي حمله على هذا التكلف أن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها. ولو اعتبرنا الفاء زائدة لم نحتج إلى هذا التقدير كله، فيكون الجار والمجرور متعلقا بما بعده، وهو تجاوز.
قوله (قال الأخفش: أي لأجل إرسالي) الخ، فيه أعمال ما بعد الفاء فيما قبلها، وقد سكت عنه الأمير، وهذا يدل على ما رجحته أنا في إعراب المثال المتقدم.
قوله (وقال بعضهم) الخ. يعني أن بعضهم جعل الكاف في (كما أرسلنا) للتشبيه كما في (وأحسن كما أحسن الله إليك) لا للتعليل. ومراده بالخاص إرسال الله الرسول، وذكر الناس لله وشكرهم له يشملهم الإحسان، فالإرسال إحسان من الله إلى عباده، والذكر والشكر إحسان منهم في طاعته وعبادته، وبذلك يشبه قوله تعالى في سورة القصص (77) (وأحسن كما أحسن الله إليك).
قوله (وطرفك) الخ. هذا البيت لعمر بن أبي ربيعة، قاله السيوطي في حاشيته على المغنى. والمعنى: أن المحبوبة قالت للشاعر – بزعمه: إن جئتنا فاحبس طرفك عني، وانظر إلى غيري ليظن الناس أنني لست محبوبتك، وأن محبوبتك حيث تنظر، وبذلك يبقى حبنا مستورا.
فهكذا تستعمل كاف التعليل أيها المعترض.
قوله: ثم أنه لما عاب على القائل قوله لم يذكر له القول الصحيح، فلنحسب أن القول المذكور دخيل، فما وجه الصواب؟ فالبراعة ليست في التخطئة وحدها، بل فيها وفي ذكر الوجه الصحيح انتهى.
أقول: أنا لا أعامل الكتاب كما يعامل معلم الإنشاء في المدرسة الابتدائية تلاميذه كما تفعله أنت، ثم إن الكاف الاستعمارية تستعمل ضروبا من الاستعمال الفاسد، وقد نقلت عن الأئمة معاني الكاف، واستعمالها بأمثلة موضحة من كلام العرب، لا تبقى لبسا ولا إبهاما، فإذا راعوا تلك القواعد، وتجنبوا الكاف الاستعمارية التي لا معنى لها، ولا ينطبق عليها كلام الأئمة، فليختاروا ما شاءوا من العبارات، لأن باب التعبير واسع، وضروب القول كثيرة، ومن تجنب الخطأ أدرك الصواب. فقولهم مثلا: حضر فلان المؤتمر كمراقب، فاسد، لأنه من باب تشبيه الشيء بنفسه، ولا يصح أن تكون الكاف للتعليل، كما زعم المعترض، إذ ينبغي أن يقال: ليراقب، بلام التعليل، لأن استعمال القرآن والمثال الذي حكاه سيبويه كل ذلك يأبى أن نقول: حضرت
المؤتمر كمراقب، ويراد بذلك: لأني مراقب.
14- قال المعترض: ونعود أيضا إلى جدية قول القائل (يجب علينا أن نسعى لخلق نهضة ثقافية) الخ. أقول في رده: الذي منع استعمال الخلق بمعنى الإيجاد والإنشاء، وخصه بنفسه سبحانه هو الله. والقرآن أكبر حجة في اللغة العربية على المؤمن به والكافر به. قال تعالى في سورة النحل (17) (أفمن يخلق كمن لا يخلق، أفلا تذكرون) فالذي يخلق هو الله، والذي لا يخلق هو غير الله، فمن زعم أن غير الله يخلق، وكان ينتسب إلى الإسلام فقد كذب القرآن، وإن كان لا ينتسب إلى الإسلام، فهو جاهل باللغة العربية، فهما خطتا خسف.
وقال تعالى في سورة النحل (20) (والذين يدعون من دون الله، لا يخلقون شيئا وهم يخلقون. أموات غير احياء، وما يشعرون أيان يبعثون).
ومن المعلوم أن الآلهة التي اتخذوها من دون الله، منها من يعقل كالملائكة وعيسى وأمه، والصالحين، ومنها تماثيلهم التي يزعمون أن أرواحهم لا تفارقها، وهي الأصنام والأوثان. وقوله تعالى (أموات غير أحياء) يصدق على جميع ذلك، فمن كان مآله الموت فهو ميت، كما قال تعالى في سورة الزمر (30) (إنك ميت وإنهم ميتون).
وقال تعالى في سورة الفرقان (3) (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا).
وقال تعالى في سورة فاطر (3) (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو فأنى تؤفكون).
فهذه الآيات ناطقة بأن الخلق لا يسند إلى غير الله البتة، لا فعلا ولا اسما، معرفا أو نكرة. وقال تعالى في سورة لقمان (11) (هذا خلق الله، فأروني ماذا خلق الذين من دونه، بل الظالمون في ضلال مبين) فالخلق لا يسند إلى غير الله تعالى إلا إذا كان بمعنى التقدير كما في البيت الذي أنشدته من قبل، وهو قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعــ *** ــض القوم يخلق ثم لا يفـري
أو بمعنى الكذب كقوله تعالى في سورة العنكبوت (17) (إنما تعبدون من دون الله أوثانا، وتخلقون إفكا).
وأما قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام (49) (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله). كتبت ما تقدم قبل أن أراجع غريب القرآن للراغب، فوجدت كلامه مطابقا لما قلته، ولما كنت أريد أن قوله ولله الحمد.
قال الراغب: الخلق: أصله التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء، قال (لخلق السموات والأرض) أي أبدعهما، بدلالة قوله (بديع السموات والأرض) ويستعمل في إيجاد الشيء نحو قوله (خلقكم من نفس واحدة) (وخلق الإنسان من نطفة) (خلق الإنسان من سلالة) (ولقد خلقناكم) (خلق الجان من مارج).
وليس الخلق هو الإبداع إلا لله، ولهذا قال في الفصل بينه تعالى وبين غيره (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) وأما الذي يكون بالاستحالة فقد جعله الله تعالى لغيره في بعض الأحوال كعيسى حيث قال: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) والخلق لا يستعمل في كافة الناس إلا على وجهين: أحدهما في معنى التقدير، كقول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـــ *** ــض القوم يخلق ثم لا يفري
والثاني في الكذب نحو قوله (وتخلقون إفكا) اهـ.
أقول: وينقل هذا الكلام يقال: قطعت جهيزة قول كل خطيب، ودارت الدائرة على المعترض.
قال المعترض: واحتجاجه بان الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى، وكذلك الخالق، وهذا احتجاج غريب، فالله تعالى المحي، وعلى قوله لا يجوز إن نقول (إحياء مآثر العرب وتراثهم) الخ.
أقول: أنا ما احتججت قط بان استعمال الإيجاد والإنشاء خاص بالله تعالى، وكذلك الإحياء، فهذا افتراء علي، وإنما قلت: أن استعمال الخلق، هو الخاص بالله تعالى، فليراجع كلامي، ليعلم أنه يقولني ما لم أقله، ثم يرد ما تقوله على، بل الذي أرتضيه وأدعو إليه هو استعمال الإيجاد والإنشاء، وترك استعمال الخلق فيما يفعله غير الله تعالى، فيقال، فلان أحدث، أو أوجد نهضة أدبية في قومه، وكذلك فلان أحيى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومآثر السلف الصالح، وفي الحديث من أحيى سنة من سنتي قد أميتت بعدي فله أجر مائة شهيد، وفي كتب الحديث: إحياء الموات ومن أحيى أرضا مواتا فهي له.
أما قوله (ينبغي أن نلعن البديع الهمداني) فهو في غاية السخافة، فنحن لسنا بصدد لعن احد، وإنما نحن بصدد اختبار العبارات الصحيحة ونبذ العبارات الفاسدة، فأين يذهب بك أيها المعترض.
قوله (ولنا مع الدكتور موعد آخر إن شاء الله) تقدم الجواب عنه في آية الأنفال (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) الآية، ولولا الحياء والإبقاء لأنشدته:
إن عـادت العقـرب عدنـا لهـا *** وكانـت النعـل لهـا حاضـره
كتب في مكناس بالمغرب.
مجلة دعوة الحق: العدد 101 (العدد 1 – السنة 11) – شعبان 1387هـ – نونبر 1967م – ص: 32-37