تقويم اللسانين مستقيم
وقد عدلت في تعديلك عن العدالة
(2)
5- قال المتعرض الفاضل والناقد العادل: وقال (وعمت الفوضى في الإنشاء العربي) فما هذه الفوضى؟ ومن استعمال جهلة المترجمين الذين عاب عليهم الدكتور استعمالهم كلما عربية في غير مواضعها، أنها ترجمة كلمة (Anarchie).
قال الأب بلو (Belot) في ترجمتها: عدم الحكم في الشعب، أمر فوضى. فالرجل على كونه غير عربي استعمل (الفوضى) صفة لا اسما كما استعملها الدكتور (فالفوضى) صفة كالشتى، فالصواب: وعمت الحال الفوضى. وكأني بالدكتور يقول: قد حذفنا الموصوف واتخذنا الصفة أسنا، فنقول له: ليست هذه بقاعدة مطردة، وأنت تدعو إلى اتباع كلام الفصحاء وأقوالهم، وهذا ليس بذاك ولا هناك، ثم ليس هذا موضع التدقيق والتحقيق فنقول: أن الفوضى أصلها (الفضى) كشتى جمع شتيت، وهي مشتقة من الفعل (فضه يفضه فضا) أي فرقه تفريقا، ثم أبدلت إحدى الضادين واوا، والتفرقة هي المعنى المراد بالفوضى، فالفوضى جمع كالشتى، تستعمل للجمع أو لما يمكن أن يتجزأ، وإن كان مفردا، فكيف يجوز استعمالها اسما جامدا مع لزوم الوصفية الجمعية لها أهـ.
قال محمد تقي الدين: أيها المعترض الكريم، متى اصطفاك فصحاء الأمة العربية نقيبا لهم، وفوضوا إليك أمر النقض والإبرام في الفصيح من لغتهم وغير الفصيح؟ لقد ارتقيت مرتقا صعبا، وطرت في غير مطارك، وأخاف عليك السقوط. إن ميزان الفصاحة ليس هو فهمك ولا ذوقك، وإنما هو قواعد وضعها الأئمة يرجع إليها ويعتمد في النقد عليها، وسأضع نقدك في الميزان، ليرى القراء، أيثقل، فيكون من المفلحين لم يخف فيكون من الخاسرين.
وسنرى هل استعمالي لهذه الكلمة من استعمال جهلة المترجمين، أم نقدك أنت ينتمي إلى جهلة المنتقدين. أنا لم آخذ هذه الكلمة من معاجم آبائك الأجانب، لا من معجم بلو ولا من غيره، وإنما أخذتها من كلام العرب الإقحاح، ومعاذ الله أن أكون في لغة قومي عالة على الأجانب، فأسمع ما يقوله أئمة اللغة العربية.
قال ابن منظور في لسان العرب في مادة ف و ض ما نصه: وقوم فوضى، مختلطون، وقيل: هم الذين لا أمير لهم ولا من يجمعهم. قال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سـراة إذا جهالهـم سـادوا
وصار الناس فوضى، أي متفرقين، وهو جماعة الفائض، ولا يفرد كما يفرد الواحد من المتفرقين. والوحش فوضى: متفرقة تتردد. أ هـ.
ومثله في القاموس للفيروز أبادي في مادة ف و ض. ثم قرأت مادة ف ض ض في القاموس، فلم أجد فيها أثرا لما زعمه المعترض من أن أصل (الفوضى) فضي، كشتى وشتيت، ولم يذكر للفوضى مفردا، ومقتضى كلامه أن يكون فضيضا، وذلك ضل بتضلال.
فالفوضى من مادة ف و ض، ومفردها (فائض) كما تقدم من كلام لسان العرب. ومن المعلوم أن الهمزة في فائض منقلبة عن واو.
قوله: وكأني بالدكتور يقول: قد حذفنا الموصوف واتخذنا الصفة اسما..الخ هذا كلام رجل لم يدرس علم النحو، فهو يخبط خبط عشواء، أو كلما حذفنا الموصوف وجب علينا أن نتخذ الصفة اسما؟ من قال هذا من أئمة النحو؟ فهل درست ألفية ابن مالك أو ما يساويها من كتب النحو؟ الظاهر أنك لم تدرس شيئا من ذلك، فكيف تتصدر وتنصب نفسك حكما وإماما في علوم الأدب، وأنت لا تعرف ما في الألفية؟ اسمع ما يقوله ابن مالك:
وما من المنعوت، والنعت عقل *** يجوز حذفه، وفي النعت يقل
قال ابن عقيل في شرحه، وهو أسهل شروح الألفية في شرح البيت السابق: يجوز حذف المنعوت وإقامة النعت مقامه إذا دل عليه دليل، نحو قوله تعالى (أن اعمل سابغات) أي دروعا سابغات، وكذلك لا يحذف النعت إذا دل عليه دليل، لكنه قليل، ومنه قوله تعالى (قالوا الآن جئت بالحق) أي البين، قوله تعالى (إنه ليس من أهلك) أي الناجين أهـ.
وقال الأشموني في شرحه لألفية ابن مالك، الشرح ممزوج بالمتن، ما نصه (وما من المنعوت والنعت عقل) أي عمل (يجوز حذفه) ويكثر ذلك في المنعوت (وفي النعت يقل) فالأول شرطه، أما كون النعت صالحا لمباشرة العامل نحو(أن اعمل سابغات) أي دروعا سابغات، أو كون المنعوت بعض اسم مخفوض بمن أو في، كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن، ومنا فريق أقام. وكقوله:
لو قلت ما في قومها لم تيثـم *** يفضلهـا فـي حسـب وميسـم
أصله: لو قلت: ما في قومها أحد يفضلها لم تأثم، فحذف الموصوف وهو أحد، وكسر حرف المضارعة من تأثم، وأبدل الهمزة باء، وقدم جواب لو فاضلا بين الخبر المقدم، وهو الجار والمجرور، والمبتدأ المؤخر، وهو أحد المحذوف، فان لم يصلح ولم يكن المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن أو في، امتنع ذلك، أي إقامة الجملة وشبهها مقامه إلا في الضرورة كقوله:
لكـم قبصـة من بيـن أثـرى وافتــرا *** ترمـي يكفـي كـان مـن أرمى البشـر
وقولـــه:
كـان مـن جمـال بني اقيـش *** يقعقـع بيـن رجليـه بشــن
انتهــى
فظهر مما نقلته من كلام النحويين أنه يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه بكثرة، بشرط أن تصلح الصفة التي حذف موصوفها لمباشرة العامل، بأن لا تكون جملة ولا شبه جملة، مع كون الموصوف فاعلا أو مفعولا أو مجرورا أو مبتدأ لأن الجملة لا تصلح لذلك قاله الخضري في حاشيته على ابن عقيل.
وهذا الشرط ينطبق أتم الانطباق على عبارتي التي انتقدها المعترض جهلا وتهورا، فإننا نقول: عمت الفوضى أي الأحوال الفوضى، لا الحال كما قدره المعترض، لأن الحال مفرد والفوضى صفة للجمع كما تقدم في كلام لسان العرب، وهو كقوله تعالى في سورة سبا(10-11) (وألنا له الحديد أن اعمل سابغات).
يخبر الله تعالى أنه الآن الحديد، أي جعله لينا لداوود قائلا له: اعمل دروعا واسعات. ففي كلامي حذفت الأحوال وهي (فاعل) وأقيمت صفتها مقامها، وفي كلام العلي العظيم: حذفت (دروعا) وهي مفعول به، وأقيمت سابغات مقامها. وحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه يقال فيه: حدث عن البحر ولا حرج، يستعمله الناس كل يوم في كتاباتهم وكلامهم بالعربية الفصحى وبالعامية، ولا يكاد احد يستغني عن استعماله، قال تعالى في سورة المائدة (38) (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) أي الرجل السارق والمرأة السارقة.
وقال تعالى في أول سورة النور (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) أي الرجل الزاني لا ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة. وقال تعالى في سورة البقرة (280) (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) أي إن وجد شخص مدين ذو عسرة لا يجد ما يؤدي به دينه، فلا تضيقوا عليه وأمهلوه إلى أن يتيسر له فضاؤه.
فكيف يزعم هذا المعترض المتخبط أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ليس من كلام الفصحاء، يا هادي الطريق ضللت:
يا أيها الرجــل المعلــم غيــره *** هـلا لنفسـك كـان ذا التعلــيم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى *** كيما يصـح بـه وأنـت سقيــم
أما إذا كانت الصفة جملة أو شبه جملة، فيشترط لحذف الموصوف بها أن يكون بعض اسم مجرور (بمن أو في) مثال المجرور بمن: قول العرب: منا ظعن ومنا أقام، أي منا فريق ظعن، أي سافر، ومنا فريق أقام. ففريق الذي هو موصوف محذوف وهو بعض ما يدل عليه الضمير (نا) المجرور بمن. ومثال المجرور (بفي) قولهم: فينا سلم، وفينا هلك، أي فينا فريق سلم وفريق هلك، وفيما سوى ذلك لا يجوز الحذف.
قوله (لو قلت ما في قومها) البيت، قاله أبو الأسود الحماني يصف امرأة بالحسب والجمال، والموصوف المحذوف هنا تقديره (أحد) أي لو قلت أيها المعجب بجمالها وكمالها؛ ما في قولها أحد من النساء في الحسب، وهو مفاخر الآباء. والميسم -بكسر الميم، وهو الجمال- أم تأثم، لأنك صادق في قولك. والمحذوف هنا، وهو (أحد) بعض اسم مجرور بـ (في).
قوله (لكم قبصة) البيت، وصدره: لكم مسجدا الله المزوران والحصى.
والحصى: العدد الكثير. وقبصة بكسر القاف أيضا العدد الكثير من الناس. والشاهد في قوله من بين أثرى، والتقدير: من بين رجل اثري، أي كثر ماله، ورجل أقتر أي قل ماله، فحذف الموصوف، وقام الصفة مقامه، مع أن الموصوف ليس بعض اسم مجرور بمن أو في لضرورة الشعر.
أقول: إن كانت القصيدة التي مدح بها الكميت بني أمية كلها مثل هذا البيت ولم يعاقبوه عليها، فإنهم كانوا حلماء، لأن البيت ركيك جدا.
وقوله (ترمي بكفي) البيت. التقدير: ترمي بكفي رجل كان من أرمى البشر، فحذف الموصوف وهو (رجل) وأقام الصفة مقامه، وهي جملة كان، وإنما فعل ذلك للضرورة كالذي قبله.
قوله (كأنك من جمال بني أقيش) البيت. بنو أقيش بصيغة التصغير حي من العرب، وزعم بعضهم أنهم حي من الجن. وإبلهم وحشية شديدة النفور، وزعموا أنها كانت هي أيضا من الجن. والشن القربة اليابسة، ويقعقع يصوت، وجمال هذه القبيلة تنفر بدون سبب، فكيف إذا صوت مصوت بين أرجلها بضربة قربة يابسة. وأراد الشاعر ذم المهجو ووصفه بسرعة الغضب. والشاهد في حذف الموصوف للضرورة، والتقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش.
فإن قلت: وما الذي يضطرنا إلى تقدير هذا الموصوف، مع أن الكلام يتم بدونه؟ أقول: لو لم نقدره لم يكن في البيت ما يعود عليه ضمير رجليه، ولا بد له من شيء يعود عليه.
أيها المعترض الكريم، أظنك أدركت زمان الإمام العلامة السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله، ولم تكن من تلاميذه، بل حرمت الاستفادة من بحر علمه الغزير، ولم يصحبك التوفيق الذي صحب تلاميذته، كالأستاذ محمد بهجة الأثري، وشاعر العرب معروف الرصافي وغيرهما. ولو أنك كنت من تلاميذته لم تهذ إلينا هذا الهذيان، متوهما أنه من جواهر البيان.
وقول المعترض: أن الفوضى، أصلها الفضى، كشتى جمع شتيت، وهي مشتقة من الفعل (فضه يفضه فضا) أي فرقه تفريقا، ثم أبدلت إحدى الضادين واوا، والتفرقة هي المعنى المراد بالفوضى، فالفوضى جمع كالشتى. الخ
إن كان جمعا فما هو مفرده؟ على مقتضى زعمك يكون مفرده فضيضا، فإن كنت ناقلا، فعليك بتصحيح النقل، فإني لم أجد في كتب اللغة أحدا أشار إلى شيء مما ذكرت، وقد تقدم أنه من مادة (ف و ض) وإن كنت مخترعا لهذا الاشتياق الفاسد، وظننت أنك تستطيع أن تروجه على قراء دعوة الحق أجمعين، فقد بلغ بك الغرور كل مبلغ.
واعلم أيها القارئ العزيز أنني لم استفد لفظ (الفوضى) من كلام المترجمين الجاهلين أو العالمين كما هو شأن المعترض الذي اتخذ القسيس (انسطاس الكرملي) إماما معصوما في علوم اللغة العربية، ولم يأت علومها من أبوابها كما فعل غيره من أدباء العراق النبلاء، فكان الشاعر عناه بقوله:
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه *** ضللت، وزان تدخل من الباب تهتد
وإنما أخذت ذلك اللفظ من شعر الأفوه الأودي أنشده بعض المؤلفين في علم العروض فقال:
لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم *** ولاسراة إذا جهالهم سادو
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة *** ولا عمود إذا لم ترس أوتاد
فان تجمع أوتاد وأعمدة *** وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
وليت شعري، ما معنى قوله: ثم ليس هذا موضع التدقيق والتحقيق؟ ما المراد بهذا أهو لفظ الفوضى؟ أم حذف الصفة وإقامة الموصوف مقامها؟ وأيهما قصده لم يكن لكلامه معنى.
وقوله: فالفوضى: جمع كالشتى، تستعمل للجمع، أو لما يمكن أن يتجزأ، الخ. أما كونها صفة جمع، فمسلم، ولكن إذا عرف ذلك، فكيف قدر موصوفها مفردا في تصحيحه الفاسد؟ بقوله: فالصواب: وعمت الحال الفوضى؟
يصيب وما يدري ويخطي وما درى *** وكـيف يكـون النـوك إلا كذلـك
ثم أن ادعاءه أن هذا اللفظ يكون صفة للجمع، أو لما يمكن أن يتجزأ، وإن كان مفردا، وما هو هذا الشيء الذي يتجزأ وهو مفرد، أهو جنة تتجزأ إلى أشجار؟ فنقول: شجرة من جنة، أم روضة تتجزأ على أزهار؟ فنقول: زهرة من روضة، أم ماذا؟ وهل هذا الادعاء نقل أو اختراع؟ فإن كان نقلا فليصححه، بأن ينسبه إلى قائله من الأئمة، وإن كان اختراعا فهو من تخيلاته الفاسدة، وبنات غيره، فلا يساوي قلامة ظفر عند المحققين.
ثم أقول له: والحال التي قدرتها محذوفة، وجعلت الفوضى صفة لها، والأمر الذي نقلته من كلام أبيك (بلو) وأعجبت به كل الإعجاب، هل هما من المفرد الذي يتجزأ؟ فكيف تجزئهما؟ أثلاثا أو رباعا أو خماسا؟ أو أجزاء لا يعرف عددها؟ هل فكرت في هذا الأمر قبل أن تكتبه وترسله من بغداد إلى الرباط هدية ثمينة إلى أدباء المغرب وأدباء العالم؟ ما أخال إن أدباء العراق يرضون بخطتك هذه، ويعتبرونها شيئا مشرفا، وقد يعتبرونك كبراقش التي كانت تجني على أهلها، ونحن ننزه أدباء العراق المحققين عن مثل هذه السفاسف المرتجلة.
ثم إن تمثيل الإمام ابن عقيل لحذف النعت أي الصفة بقوله تعالى في سورة البقرة (71) (قالوا: الآن جئت بالحق) أي البين، فحذفت الصفة وهي البين، تمثيل غير صحيح، لأن موسى قال لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزؤا، قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين). فلم يكن بنو إسرائيل يعتقدون أن موسى أجابهم في أول الأمر بالحق المبهم، وفي آخر الأمر بالحق البين، بل ظنوا أنه يتخذهم هزؤا، وفهم موسى ذلك من كلامهم، فاستعاذ بالله منه، وعده من الجهل، وهو السفه.
وكذلك تمثيله بقوله تعالى في سورة هود (46) (إنه ليس من أهلك) أي الناجين، لا حاجة إلى تقدير هذا النعت، لأن نوحا عليه السلام حين قال ( رب إن ابني من أهلي)، لم يرد بذلك أن يخبر أن الابن الهالك من ذريته، وإنما أراد أن يقول: إنه من أهله الذين يستحقون الرحمة والعفو لقربه من رسول الله نوح أحد أولي العزم، فأخبره الله أن ذلك الابن ليس من المؤمنين بما جاء به أبوه، فلا يستحق النجاة ولا الرحمة بالقرابة المجردة، فإنها لا قيمة لها عند الله. قال تعالى في سورة الطور(21) (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم).
وقال تعالى في سورة الأنعام بعد ذكر الرسل (87-88) (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) فمن أشرك من ذرية الرسل حبط عمله واستحق الخلود في العذاب، ولم تغن عنه قرابته من الرسول شيئا.
والصواب ما مثل به الأشموني حيث قال: والثاني كقوله تعالى 18: 79 (يأخذ كل سفينة غصبا) أي كل سفينة صالحة. وقوله:
فلم أعط شيئا ولم أمنع.
أي شيئا طائلا. وقوله:
ورب أسيلـة الخـدين بكـر *** مهفهـة لهـا فـرع وجيــد
أي فرع فاحم، وجيد طويل.
6- قال المعترض: وقال (ربما استعمله بعض كبار الأساتذة الذين يرجى منهم المحافظة على صحة الاستعمال) أراد بالبعض هنا غير واحد منهم، مع أن (بعضا) لم تكرر في الجملة حتى تدل على غير الواحد، فالمكررة كالقول الذي قاله الدكتور في نقده هذا (تحدث بعضهم إلى بعض) وكما في الآية الكريمة التي اتخذها شاهدا، وهي (فاقبل بعضهم على بعض يتلاومون) فإذا لم تكرر، وكان المضاف إليه الذي أضيفت إليه ذا أجزاء منفصلة، أو ممكن فصلها دلت على واحدة أو واحدة.
أقول في جوابه بالعامية العراقية (يا أباه! شاباش!) وبالعامية المصرية (عفارم!) ما هذا العلم الغزير، والتحقيق البديع؟ والآن أضع في الميزان هذا النقد، ليعرف القراء الأعزاء قيمته.
ادعى المتعرض أن لفظ (بعض) إذا كرر دل على أكثر من واحد، وإذا لم يكرر، وكان المضاف إليه ذا أجزاء منفصلة، أو ممكن فصلها دل على واحد أو واحدة، أقول: من وضع هذه القاعدة؟ إن كنت ناقلا، فلم لم تعز ما نقلت إلى قائله وتذكر فيه الخلاف أو الإجماع إن كنت من المحققين كما تزعم، وإن كنت مخترعا، فما أنت علي، ولا أبو الأسود، ولا الخليل، ولا سيبويه، ولا من هو دونهم من النحاة واللغويين، فما تضعه من القواعد هوس لا قيمة له، وما أحسن ما قال بعضهم في أمثالك:
تصدر للتدريس كل مهوس *** سفيه يسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا *** ببيت قديم شاع في كل مجلس
(لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس)
اسمع ما يقوله الأئمة في (بعض)، قال ابن منظور في لسان العرب: (بعض) الشيء: طائفة منه، والجمع أبعاض. قال ابن سيدة: حكاه ابن جني، فلا أدري أهو تسمح أم هو شيء رواه. واستعمل الزجاجي (بعضا) بالألف واللام فقال: وإنما قلنا البعض والكل مجازا، وعلى استعمال الجماعة له مسامحة، وهو في الحقيقة غير جائز، يعني أن هذا الاسم لا ينفصل من الإضافة.
قال أبو حاتم: قلت للأصمعي، رأيت في كتاب ابن المقفع: العلم كثير، ولكن أخذ البعض خبر من ترك الكل، فأنكره أشد الإنكار، وقال: الألف واللام لا يدخلان في (بعض وكل).
ومضى على أن قال: وقوله تعالى (تلتقطه بعض السيارة) بالتأنيث في قراءة من قرأ به، فإنه أنث، لأن بعض السيارة، سيارة كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع يكون أصبعا وأصبعين وأصابع. اهـ
تأمل قول ابن منظور في بيان قول العرب: ذهبت بعض أصابعه، لأن بعض الأصابع، يكون إصبعا وأصبعين وأصابع، وكذلك (بعض الأساتذة) يكون أستاذا وأستاذين وأساتذة، ولا فرق، فبطل بذلك ما زعمه المعترض من أن (بعضا) إذا لم يكرر يدل على واحد أو واحدة فقط.
قوله وشاهدنا كتاب الله العزيز ففيه (يلتقطه بعض السيارة) الخ. أقول: نعم الشاهد كتاب الله، ولا حجة لك فيه، لأن لفظ (بعض) مذكر ومفرد، والضمير يعود عليه مفردا حسب لفظه، فليس فيه دليل على ما زعمت، لأننا نقول كما قال ابن منظور: أن (بعضا) إذا أضيف إلى جمع يدل على واحد أو اثنين أو أكثر، فنحن لا ننكر أنه يدل على واحد في بعض الأحيان، ولكننا ننكر ما ادعيت من أنه لا يدل إلا على واحد أو واحدة بالشرط الذي ذكرته من مخترعاتك.
وقوله: و(قالوا لولا أنزل على بعض الأعجمين فقراه) أيها المعترض المسكين، لقد استهدفت ونصبت نفسك للرماح دريئة، نحن تعلم أن الله حرمك من حفظ القرآن، ولكنه لم يحرمك من مصحف يوجد في خزانة كتبك، فهلا راجعته قبل أن تحرف كتاب الله وتغيره، ففي أي سورة وجدت هذا اللفظ؟ وفي أي أية؟ لقد خانتك ذاكرتك الواهمة، وأظنك تريد قوله تعالى في سورة الشعراء (198-199) (ولو نزلناه على بعض الأعجمين. فقراه عليهم ما كانوا به مؤمنين).
وغاية ما في الآيتين أن (بعض) هنا تدل على واحد، وأنا لا أنكره، ولا حجة لك فيه، وكذلك يقال في آية التحريم. وأما قول الشاعر:
ولانت نفري ما خلقت وبعـ *** ـض القوم بخلق ثم لا يفري
فلا أسلم أن (بعض) هنا يدل على واحد فقط، والقرينة والواقع يحتمان أنه يدل على أكثر من واحد. أما الواقع، فإن الذين يرسمون الخطط لعمل من الأعمال ويعزمون على تنفيذه فريقان: فريق ذوو عزائم ماضية وهمم عالية، ينفذون كل ما رسموا له خطة،وفريق ذوو عزائم واهية، وهمم سافلة، يقولون مالا يفعلون، ويعزمون ولا ينفظون ولا يمكن أن ينحصروا في واحد.
وأما القرينة، فإن الشاعر يريد أن ممدوحه من ذوي الهمم العالية الذين إذا قالوا فعلوا وإذا وعدوا أنجزوا، وكثير من الناس تقصر هممهم عن التخلق بهذا الخلق، وعلى تأويل المعترض، يكون الناس كلهم ينجزون وعودهم ويوفون بعهودهم، وينفذون ما رسموا من الخطط إلا واحدا، فلا يكون فيه مدح، وقد ظهر أن هذا البيت حجة عليه لا له.
وأما بيت أبي دلامة وبيت بشار: فمع تسليمي لدلالة (بعض) فيهما على واحد أقول: لا حجة في كلام أحد من المولدين، وبشار بن برد كان مجوسيا عجميا، وكان يزمزم على الطعام قبل أن يظهر إسلامه، ومع ذلك هو من فحول الشعراء المحدثين، ولا حجة في كلامه.
وأما قول لبيد: أو بعتلق بعض النفوس حمامها. فقد اختلفوا في دلالة (بعض) هنا، والصحيح أنها تدل على واحد، ولا حجة للمعترض فيه، لأن الخلاف بيني وبينه ليس في صحة دلالتها على واحد.
وقال تعالى في سورة الزخرف (63) (ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه).
قال الراغب في غريب القرآن: قال أبو عبيدة: (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) أي كل الذي كقول الشاعر:
أو يرتبـط بـعض النــفوس حمامهــا
وفي قوله هذا قصور نظر منه، وذلك أن الأشياء على أربعة أضرب: ضرب في بيانه مفسدة، فلا يجوز لصاحب الشريعة أن يبينه، كوقت القيامة، ووقت الموت. وضرب معقول، يمكن للناس إدراكه من غير نبي، كمعرفة الله ومعرفته في خلق السموات والأرض، فلا يلزم صاحب الشرع أن يبينه. ألا ترى أنه كيف أحال معرفته على العقول في نحو قوله (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) وبقوله (أولم يتفكروا) وغير ذلك من الآيات. وضرب يجب عليه بيانه كأصول الشرعيات المختصة بشرعه. وضرب يمكن الوقوف عليه بما بينه صاحب الشرع، كفروع الأحكام.
وإذا اختلف الناس في أمر غير الذي يختص بالنبي بيانه فهو مخير بين أن يبين وبين أن لا يبين حسبما يقتضي اجتهاده وحكمته. فإذن قوله تعالى (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) لم يرد به كل ذلك، وهذا ظاهر لمن ألقى العصبية عن نفسه. أهـ
قال محمد تقي الدين: قول الراغب (ضرب في بيانه مفسدة) الخ. خطأ، لأن صاحب الشريعة لا يعرف وقت القيامة لقوله تعالى في سورة الأعراف (187) (يسألونك عن الساعة أيان مرساها، قل إنما علمها عند ربي)، وقوله سبحانه في سورة لقمان (34) (وما تدري نفس بأي أرض تموت).
وقوله (وضرب معقول، يمكن للناس إدراكه) الخ. جرى في ذلك على مذهبه الاعتزالي أن العقل وحده كاف لمعرفة الله، والحق أن العقل وحده لا يكفي في ذلك، فلا بد من بيان الرسل. وسائر كلامه لا إشكال فيه.
وعلى ما زعمه المعترض يكون معنى قوله تعالى (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) ولأبين لكم مسألة واحدة من الذين تختلفون فيه، وكفى بقول يفضي إلى هذا فسادا. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة آل عمران (50) (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم).
قال القنوجي في فتح البيان: عن الربيع قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى، لحوم الإبل والثروب، فأحلها لهم على لسان عيسى، وحرم عليهم الشحوم فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير، وفي أشياء أخرى حرمها عليهم، وشدد عليهم فيها، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. أهـ
فعلى قول المعترض لا يمكن أن يحل عيسى لبني إسرائيل إلا شيئا واحدا، وقد أحل لهم أشياء عديدة كما رأيت أيها القارئ الكريم، وهذه نصوص القرآن التي زعم أنها تنصره، فإذا بها تخذله، لأنه ليس من أهل القرآن، لا حفظا، ولا عملا وإيمانا، فان القرآن يقول في سورة البقرة (185) (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه) وهو يأكل ويشرب في رمضان جهارا على أعين الناس، وهو شاهد غير مسافر.
والقرآن في غير ما أية (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وهو لا يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ويحتج علي بنصوص الفقه في مسألة لغوية لا علاقة لها بالفقيه. والمبتدئون من تلاميذ الأدب، فكيف بالعلماء يعلمون أن أقول الفقهاء ليست حجة في اللغة، وهل سمعتم بفقيه لا يصلي ولا يصوم، ورأسه منذ عشرين سنة ابيض كالثغامة، بسوء الغانيات إذا رأينه؟
وهذا آخر المقال، وموعدنا الجزء التالي بحول الله وقوته.
مجلة دعوة الحق: العددان 101-102 (العددان 9و10 – السنة 10) – ربيع2 جمادى1 1387هـ – يوليوز- غشت 1967م – ص: 26-31