و قد ثبت أن النبي ﷺ شارك في هذا الحلف قبل الإسلام وأقره ومدحه بعد الإسلام، وأخبر أنه لو دعي إليه لأجاب، وبذلك أصبح التمسك به فرضاً على الأمة الإسلامية إلى الأبد، فيجب عليهم أن يعملوا بمقتضاه في حرب اليمن، فيضرب على يد الظالم ويقسروه على الحق قسراً، حتى يرجع الحق إلى نصابه، والماء إلى مجراه، وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
قوله: وعلى التأسي في المعاش، الناس والمواساة، المشاركة والمساهمة في الرزق، وهذا التاسى من السنن الاجتماعية، والأخلاق الانسانية التي سبق إليها العرب في جاهليتهم وإسلامهم بطريق إنساني جامع بين العدل والإحسان، ليس فيه جور ولا دماء ولا دموع، ولا تخريب بيوت لعمارة أخرى، ولا فيه إنزال النكبات بعلية الشعب وذوى المروءات لبناء صروح للصعاليك والخراب وقطاع الطريق، كما يفعله أعاجم أوربا من ذوى رؤوس الأموال القساة، وأدعياء الاشتراكية العناة.
فالعرب المسلمون لا يدينون برأس المال ولا بالاشتراكية القهرية و الغصب والتعدي، بل يتآسون باختيار وحرية وشعور إنساني، فلا يبيت أحدهم شبعان وجاره جائع، ولا مكتسياً وجاره عريان، ولا دفيئاً وجاره مقرور، ولا مستكنا وجاره في العراء.
لقد رأيت أيها القارىء المسلم الحنيف أو المنصف العدل كيف كان التآسي بين العرب المحمديين، فإن قلت: كيف تسميهم محمديين، وأنت تتكلم فيما وقع قبل الإسلام؟ قلت نعم: سميتهم محمديين ولم أسمهم مسلمين، لأن محمداً شاركهم في حلف الفضول، وكان يشارك في كل خير من أفعالهم، ويتجنب كل شر حتى قبل النبوة، وسوف ترى التأسى عند العرب المسلمين الحنفاء.
قال الإمام أبو محمد على بن حزم رحمه الله في المحلى (ج 1 ص 156): وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، ولا فيئي سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لابد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة.
برهان ذلك قول الله تعالى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وقال تعالى: ﴿بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) فأوجب الله تعالى حق المساكين، وابن السبيل وما ملكت اليمين، مع حق ذي القربى، وافترض الاحسان إلى الأبوين وذى القربى والمساكين والجار، وما ملكت اليمين. والإحسان يقتضي كل ما ذكرنا ومنعه إساءة بلا شك.
وقال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ فقرن الله تعالى إطعام المسكين بوجوب الصلاة، وعن رسول الله ﷺ من طرق كثيرة في غاية الصحة أنه قال: “من لا يرحم الناس لا يرحمه الله”.
قال أبو محمد: ومن كان على فضلة، ورأى المسلم أخاه جائعاً عريان ضائعاً فلم يغنه، فما رحمه بلا شك.
وروى بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، أن أصحاب الصفة كانوا ناساً فقرأ، وأن رسول الله ﷺ قال: “من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس” – أو كما قال – فهذا هو نفس قولنا.
ثم روى بسنده إلى ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه”، قال أبو محمد: من تركه يجوع ويعرى، وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد أسلمه.
ثم روى بسنده إلى أبى سعيد الخدرى أن رسول الله ﷺ قال: “من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له” قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل، قال أبو محمد: وهذا إجماع الصحابة يخبر بذلك أبو سعيد، وبكل ما في هذا الخبر نقول:
ومن طريق أبي موسى عن النبي ﷺ: “أطعموا الجائع، وفكوا العانى” والنصوص من القرآن والأحاديث الصحاح في هذا تكثر جداً.
ثم روى بسنده إلى على بن أبي طالب أنه قال: “إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فيمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه”، وعن ابن عمر أنه قال: في مالك حق سوى الزكاة.
وعن عائشة أم المؤمنين والحسن بن على وابن عمر أنهم قالوا كلهم لمن سألهم: “إن كنت تسأل في دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع، فقد وجب حقك”.
وصح عن أبي عبيدة بن الجراح وثلاثمائة من الصحابة، أن زادهم فني، فأمرهم أبو عبيدة فجمعوا أزوادهم في مزودين، وجعل يقوتهم إياها على السواء فهذا إجماع مقطوع به من الصحابة، لا مخالف لهم منهم.
وصح عن الشعبي ومجاهد وطاووس كلهم يقول: “في المال حق سوى الزكاة”، قال أبو محمد وما نعلم عن أحد منهم خلاف هذا، إلا عن الضحاك بن مزاحم فانه قال، “نسخت الزكاة كل حق في المال” قال: أبو محمد وما رواية الضحاك حجة فكيف رأيه؟.
قال محمد تقى الدين: والعجب ممن تكون عنده هذه الشريعة المطهرة فيتركها ويقتبس قوانين أجنبية يستبدلها بها ويبالغ في تقديسها، ويوالي عليها ويعادي، ولا يكفيه ذلك حتى يرمى المتمسكين بالشريعة العربية المحمدية بالرجعية، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل.
قوله: من يعديني أي من ينصرني عليه، الأعناق، ضرب من السير والمراد، يسرعون.
قوله: ولا شجت لقحة، لم أجد أحداً تعرض لشرح هذا المثل، لا في اللسان، ولا في مجمع الأمثال، واللقحة الناقة الحلوب، وفي كتب اللغة شجت الناقة قطعت بولها، أي لا نتركها عندك ولو مقدار ما تبول الناقة، ثم تقطع بولها، كما يقال: ولا فواق ناقة وهو الفترة التي بين الحلبتين.
و ليس المسلمون في حاجة إلى حلف يحدثونه، فإن الحلف الذي ورثهم إياه نبيهم الكريم يغنيهم إن عملوا به، وإن لم يعملوا به فلا ينفعهم حلف جديد، وفى الكتاب والسنة من الأدلة التي توجب على المسلمين التناصر والتعاون والتعاضد ما لا يأتى عليها الحصر، وقد مر بعضها، ومنها قوله تعالى في سورة الحجرات (9، 10): ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى أمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما تقول الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم.
وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث حسن عن أبي بكرة قال: إن رسول الله ﷺ خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن على، فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول: “إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين” فكان كما قال ﷺ، أصلح تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والوقعات المهولة.
وقوله تعالى: ﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ﴾ أى حتى ترجع إلى أمر الله، وتسمع للحق وتطيعه كما ثبت في الصحيح عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوما، فقلت يا رسول الله، أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالماً؟ قال رسول الله ﷺ: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه”.
وروى أحمد بسنده عن أنس قال قيل للنبي ﷺ: “لو أتيت عبد الله بن أُبَيّ، فانطلق إليه النبي ﷺ وركب حماراً، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق النبي ﷺ قال إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك. فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحاً منك، قال فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدى والنعال فبلغنا أنه أنزلت فيهم ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾، ورواه البخاري في الصلح.
وقوله تعالى: ﴿فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ أي اعدلوا بينهما فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو العدل، إن الله يحب المقسطين.
وروى ابن أبي حاتم بسنده إلى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: “إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا”.
قال محمد تقى الدين: فالواجب على جميع المسلمين، سواء أكانوا عربا أم غير عرب أن يرجعوا إلى هذه النصوص، ويحكموها في كل خلاف، ويرضوا بحكمها، ويكونوا يداً واحدة على كل من لم يرض بحكمها من المارقين والمنافقين، وحينئذ يرون من نصر الله لهم وهيبة أعدائهم وتخاذلهم ما لم يكن لهم في حسبان.
أما استجداء المعونة من أعداء الإسلام والتوكل عليهم، والاعتزاز بهم، فإنه لا يزيدهم إلا خبالاً.
الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
مجلة البعث الإسلامي: العدد 3 – المجلد 11 – رجب 1385 هـ – نوفمبر 1966م – ص: 37-43




