الدكتور محمد تقى الدين الهلالي
حلف الفضول
قال ابن هشام: وأما حلف الفضول، فحدثني زياد بن عبد الله عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمر وابن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لوى لشرفه وسنه، فكان حلفهم عنده، بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف، حلف الفضول.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأحببت.
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم ابن الحارث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
والوليد يومئذ أمير على المدينة، أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. قال فقال عبد الله بن الزبير: وهو عند الوليد حين قال حسين ما قاله: وأنا أحلف بالله. لأن دعا به لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعاً، قال وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمى فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
توضيحات وتعليقات
قال السهيلي في (الروض الأنوف): وذكر ابن هشام الحلف الذي عقدته قريش بينهما على نصرة كل مظلوم قال: ويسمى حلف الفضول، ولم يذكر سبب هذه التسمية، وذكرها ابن قتيبة فقال: كان قد سبق قريشاً إلى مثل هذا الحلف جرهم فى الزمن الأول، فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم، أحدهم الفضل بن فضالة، والثاني الفضل بن وداعة والثالث فضيل بن الحارث.
فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمي حلف الفضول، والفضول جمع فضل وهي أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم، ثم قال ولكن فى الحديث ما هو أقوى منه وأولى، روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابنى أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، وأن لا يعز ظالم مظلوما.
قال الفيروز آبادى فى القاموس: وحلف الفضول، هو أن هاشماً وزهرة وتيما دخلوا على عبد الله بن جدعان فتحالفوا بينهم على دفع الظلم وأخذ الحق من الظالم، سمي بذلك، لأنهم تحالفوا أن لا يتركوا عند أحد فضلا يظلمه أحد إلا أخذوه منه.
ثم قال السهيلى: ورواه في مسند الحارث بن عبد الله بن أسامة التميمي، فقد بين هذا الحديث لم سمي حلف الفضول، وكان حلف الفضول بعد الفجار، وذلك أن حرب الفجار كانت في شعبان، وكان حلف الفضول في ذى القعدة قبل المبعث بعشرين سنة، وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه فى العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه، الزبير بن عبد المطلب.
و كان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان ذا قدر بمكة، فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار ومخزوما وجمح وسهما وعدى بن كعب فأبوا أن يعينوه على العاص بن وائل، وزبروه أي انتهروه، فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر المظلوم بضاعته *** ومحرم أشعث لم يقض عمرته
يبطن مكة نائي الدار والنفر *** يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت كرامته *** ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة فى دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام قياما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتى يؤدى إليه حقه، ما بل بحر صوفة، وما رسى حراء وثبير مكانهما، وعلى التأسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
و قال الزبير:
حلفت لتعقدن حلفاً عليهم *** وإن كنا جميعاً أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا *** يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من حوالى البيت أنا *** أباة الضيم نمنع كل عار
كذا وجد ولعل الصواب: نمنع كل جار.
وقال الزبير بن عبد المطلب أيضاً:
وذكر قاسم بن ثابت فى غريب الحديث: أن رجلا من خثعم قدم مكة معتمراً أو حاجا ومعه بنت له يقال لها القتول، من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج وغيبها عنه، فقال الخثعمي من يعديني على هذا الرجل فقيل له: عليك بحلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى بالحلف الفضول، فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك؟ فقال إن نبيها ظلمني في ابنتى وانتزعها منى قسراً، فساروا معه حتى وقفوا على باب الدار.
فخرج إليهم فقالوا له: أخرج الجارية – ويحك – فقد علمت من نحن وما تعاقدنا عليه؟ فقال أفعل ولكن متعوني بها الليلة، فقالوا له: لا والله ولا شجت لقحة، فأخرجها إليهم وهو يقول:
راح صحبي ولم أحيى القتولا *** لم أودعهم وداعا جميلا
إذ أجد الفضول أن يمنعوها *** قد أرانى ولا أخاف الفضولا
لا تخالي أني عشية راح الركـ *** ـب هنتم على أن لا أقولا
توضيحات وتعليقات
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ألخ. حمر النعم الابل الحمر، وضرب بها المثل وهي أفضل مال عند العرب وأحبه إليهم.
وفي هذا الحديث دليل على ما تقدم من أن الأحلاف الممنوعة في الإسلام هى التحالف على العدوان وغمط الحق والأثرة، أما التحالف على تغيير المنكر ونصر المظلوم، و إنصافه من ظالمه، ورد الحقوق إلى أهلها، فليس ممنوعا، بل هو من صميم الإسلام، قال تعالى في سورة المائدة (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
وأخرج أحمد ومسلم في صحيحه من حديث النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ثم شبك بين أصابعه.
فهذا الحلف الذي شهده النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام وأقره واغتبط به، وأخبر أنه لو دعي إليه لأجاب، يفرض على كل مسلم من ذلك الزمان إلى يوم القيامة التزام هذا الحلف والاجابة إليه متى دعي إليه، وقد زادته آية المائدة ثبوتاً ورسوخا، وكذلك الحديثان اللذان ذكرتهما بعدها، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة لا يأتي عليها الحصر.
وقد كثر الخوض في هذه الأيام في الحلف الاسلامي، فزعم خصوم الملك فيصل أنه يدعو إلى حلف إسلامي تشترك فيه جميع الشعوب الإسلامية ودولها للتعاون والتناصر في كل ما يهم المسلمين، ومن ذلك نصر كل فرد أو جماعة وقع عليه أو عليهم ظلم في جميع أقطار الأرض.
وبعد ما زعم هؤلاء الخصوم أن الملك السعودي يدعو إلى هذا الحلف استنكروه وتبرؤوا منه ورأوا فيه نقضاً لميثاق ما يسمى بالجامعة العربية، وصرح الملك فيصل مراراً وتكراراً بأنه لم يدع إلى حلف وإنما دعا إلى مؤتمر يجمع شمل المسلمين ويؤكد عليهم التعاون على البر والتقوى كما أمرهم الله.
ومنذ سمعت هذا الخبر وفكرت فيه استولى على العجب الذي لا ينقضي من اشتداد غربة الإسلام وخذلان الناس له، قد استوى في ذلك المنتسبون إليه، والمخالفون له المعادون له، وهنا ينشد الشاعر:
إذا رمتم قتلي وأنتم أحبتي *** إذن فالأعادي واحد والحبائب
وزاد في الطين بلة، وفي الطنبور غنة، أن هولاء الخصوم نسبوا الدعوة إلى الحلف المزعومة، والدعوة إلى المؤتمر المعلومة من معاضدة الاستعمار، فإذا كانت الجامعة العربية لا تقوم إلا على نبذ تعاون المسلمين وتناصرهم واجتماع شملهم فلا أقامها الله، فإنها حينئذ تكون جامعة عربية جهلية أو معيطية، نسبة إلى أبي جهل وعقبة ابن أبي معيط أو لهبية نسبة إلى أبى لهب، ولابد أن تتب يداها وتتب هي نفسها.
وحسب هؤلاء المستنكرين لاجتماع المسلمين وتعاونهم وتعاضدهم وتناصرهم أن أعدى أعداء الإسلام هم الذين أيدوا ذلك الاستنكار وفرحوا به. ومن ذلك نعلم أن هذا الزمان هو شر الأزمنة بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين، إذ لم يجسر أحد قط فيما مضى أن يستنكر الدعوة إلى اجتماع المسلمين وتعاونهم وتناصرهم، وهو يدعى أنه مسلم إلا في هذا الزمان.
وإذا كان الاستعمار يحرص على اجتماع المسلمين وتعاونهم وعملهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم، والاستقلال يدعو إلى خلاف ذلك، فقد انعكست الحقائق، وبطلت المفاهيم.
2- قوله: أنه كان بين الحسين بن على وبين الوليد بن عتبة منازعة ألخ، يدلنا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا متمسكين بحلف الفضول وداعين إليه ومستجيبين لمن دعا إليه، فهل كانوا في ذلك آلات مسخرة للاستعمار ؟ كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
إذا لم تخش عاقبة الليالي *** ولم تستحى فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في الدين خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
فلا حاجة بالمسلمين إلى أن يعقدوا حلفاً، لأن الحلف معقود بينهم بالفعل، عقده النبي الأمين، وعمل به أصحابه الأكرمون وأيضاً فمن حق المسلم على المسلم أن يسلمه ولا يظلمه، وهذا هو معنى التحالف.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرار- بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه.
أفمع هذا يحتاج المسلمون إلى عقد حلف؟ نعم يحتاجون إلى الدعوة إلى العمل بالحلف الذي عقده الله بينهم بتعليم جاهلهم وتنبيه غافلهم، فإذا سبق جلالة الملك فيصل آل سعود إلى القيام بهذا الواجب فإنه عمل صالح يشكره الله ويشكره عليه كل مسلم، ولا يكاد أحد يتصور أن مسلماً يستنكر ذلك ويبرأ منه إلا إذا استنكر الإسلام نفسه وبرئ منه.
وقد سمعت هذا الاستنكار المنكر يتردد في الاذاعات وانتظرت أن يصرخ المسلمون في وجوه هؤلاء المستنكرين ويزجروهم ويعلنون الحق في غير محاباة ولا مداهنة، فلم أر أحداً منهم حرك ساكنا، ولا نبس ببنت شفة، وكأن الأمر لا يهمهم فها أنا ذا أقوم بهذا الواجب وأسعى فى نشره ليرجع إليه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
3- قوله: وذلك أن حرب الفجار ألخ، هي حرب وقعت بين قريش وقيس غيلان حضرها النبي صلى الله عليه وسلم مع أعمامه، وهو ابن عشرين سنة، أي قبل أن يبعثه الله رسولا بعشرين سنة، وسميت بذلك لأنها وقعت في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة، فقالت قريش: فجرنا أي ملنا عن الحق إلى الباطل، وإنما قالوا ذلك لأن القتال في الأشهر الحرم كان محرما عندهم، وكذلك فى الاسلام، قال تعالى في سورة البقرة (216 يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير) قال البيضاوي أي ذنب كبير وكانت الدبرة أى الهزيمة في تلك الحرب على أعداء قريش.
4- قوله فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف أي استغاثهم واستنصرهم، أوفى: أي صعد فوق جبل أبي قبيس، وهو أحد جبلي مكة لأنها في واد بين جبلين.
5- قوله: وبين الحجر والحجر. الحجر بالكسر، هو حجر اسماعيل وهو يحيط به الجدار القصير المتصل بالبيت، ويجعله الطائف عن يساره لأنه من الكعبة فى الأصل الذي بناها عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، غير أن قريشاً حين جددت بناء الكعبة قبل البعثة، رأوا أن لا يبنوها إلا بمال حلال، ليس فيه حلوان كاهن، وهو ما يأخذ العراف الذي يخبر بالمغيبات بزعمه، ويسمى بالعامية فتاح الفال والرمال الذي يخط في الرمل، ولا مهر بغى وهو ما تأخذه المرأة أجرة على الزنا، فلم يجدوا من المال الحلال ما يكفي لبنائها على قواعد إبراهيم وإسماعيل فتركوا جزءاً منها وبنوا جداراً قصيراً يحيط به ليعلم أنه في الأصل منها. والحجر بفتحتين هو الحجر الأسود الذي يقبله الطائفون بالبيت.
و رب قائل يقول: ما بالك تشرح هذه الأمور الواضحات وشرح الواضحات من الفاضحات فأقول: إن حرفتى طول عمرى هي التعليم وقد خبرت القراء في هذا الزمان فعلمت أن أكثرهم يحتاجون إلى شرح مثل هذه الأمور.
6- قوله: أن الحرام البيت معناه، أن الحرام وهو أرض مكة إنما يستحق الاستيطان به وعمارته من لم تمت كرامته، وأما الذي يلبس ثوب الغدر والفجور فلا يستحق أن يكون من أهل الحرام، بل يستحق أن ينفى منه. قال الله تعالى في سورة البقرة (113 ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى فى خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، لهم فى الدنيا خزي، ولهم في الآخرة عذاب أليم).
7- قوله: ما رسى حراء وثبير مكانهما، حراء وثبير جبلان بمكة، وفي جبل حراء الغار الذى كان يتعبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحى عليه، وهذا أيضاً من الأبديات يعنى أن المتحالفين تعاهدوا على نصر المظلوم وأخذ حقه ما رسى هذان الجبلان، أي ثبتا في مكانهما، يعنون بذلك أنهم يكونون يداً واحدة مع المظلوم وينصرونه على ظالمه إلى الأبد.
(يتبع).
مجلة البعث الإسلامي: العدد 2 – المجلد 11 – جمادى الثانية 1386 هـ – أكتوبر 1966م – ص: 33



