بقلم العلامة الكبير الشيخ محمد تقي الدين الهلالي السجلماسي
يجب أن يكون المغرب الجديد مغربا جديدا. وسوف إذن ترى، هل التجديد مكروه؟ فيه وجهان، وجه مكروه ضار، ووجه مستحب نافع بل واجب. كل شي قد يدركه البلى أو يصدأ أو يتسخ فيحتاج إلى تجديد وصقل أو تنظيف. وناهيك أن الدين نفسه على خلوصه وطهارته وقدسه وصفائه لا يستثنى من هذه الكلية فيحتاج إلى تجديد، لا باعتبار أصله وحقيقته بل باعتبار ما يطرأ على نفوس المتبعين وقلوبهم من الرين والكدورات. وقد أخبر النبي ﷺ وهو الصادق المصدوق أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. رواه أبو داود في سننه. ومعنى التجديد هنا صقل النفوس وإزالة ما وقع من الخلل في إدراكها للدين. وأما جوهر الدين فهو لا يهرم ولا يبلى ولا يصدأ. وقد يلتبس هذا المقصد على غير الراسخين في العلم فيظنون أن الدين في نفسه يحتاج إلى تجديد بمعنى الزيد والنقص والتغيير والتقييد والتخصيص. وقد هلك بهذا الوهم خلق كثير فإنهم سنوا سننا وأحدثوا بدعا وقيدوا أشياء بأوقات وصفات لم يقيدها الشرع بها فأضلوا بذلك خلقا كثيرا وطمسوا الحقائق وخبطوا خبط عشواء وتاهوا في جهالات وأوهام. والحق هو ما أشرنا إليه أولا.
وإذا كان الدين بذلك الاعتبار يحتاج إلى التجديد فأمور الدنيا من باب أحرى. وهذه سنة الله في خلقه أمام أعيننا في الحيوان والنبات والجماد وهي الممالك الثلاث التي يتركب منها العالم في تجديد مستمر. فكذلك المغرب لابد له أن يتبع هذه السنة فيتجدد. ولكن لابد أن يتجدد مغربيا لا شرقيا ولا أوربيا.
وصلني صحيفة المغرب الجديد في حلتها القشيبة في عامها الثاني فابتهجت لمجرد رؤيتها، فلما جلست لقراءتها وجدت فاتحتها لأخينا الأستاذ السيد محمد المكي الناصري فتعجبت من اتفاق فكرينا اتفاقا تاما حتى كأنه عبر عما في نفسي من وجوب تولية العاملين في المغرب وجوههم شطر المغرب نفسه، واستمدادهم روح التجديد وريحانه من المغرب نفسه. أما أولا فلأن التجديد إن لم يكن مغربيا فإنه يكون مسخا ونسخا وفوضى وضياع جهود وصياحاً ونطاحاً مستمرا لا يأتي بخير، بل ينتج أعظم المفاسد كما نشاهده اليوم في ربوع الشرق إذ أراد أهله أن يجددوه تجديدا أوربيا ففشلوا وخسروا ولم يحصدوا من زرعهم إلا الخيبة والندامة، وهاهم أولاء عقلاؤهم يريدون أن يهدموا ما بنوه منذ خمسين سنة ويستأنفوا تجديدا جديدا. فكل تجديد غير مستمد من أصله فهو عقيم، لأنه بناء على غير أساس بل هو على شفا جرف هار فسينهار في نار جهنم الفوضى والفشل وبئس المصير. وقد ناب الأقطار الشرقية من ذلك شر عظيم فلم يزالوا في نزاع وتضارب وتدابر وتقاطع ومهازل تسوء الصديق وتسر العدو، وفقدوا ما كان لهم من قوة وعزيمة، ووهنوا وأعيوا ولغبوا ولم يحصلوا على طائل واستفحل فيهم داء الفوضى واستعصى علاجه. ونحن نربأ بأهل مغربنا العزيز أن يسلكوا هذه السبيل العوجاء المردية.
وأما ثانيا فقطر غير القطر المغربي وأمة غير الأمة المغربية يكونان في حاجة إلى تجديد أجنبي. ذلك أن المغرب وأمته أغنى الأمم علما وأدبا ومدنية ومجدا طارفا وتليدا. مجد أوله في أواخر القرن الأول الهجري وطرفه في القرن الرابع عشر. مجد مغربي متناسق متوال بدون انقطاع ولا انفصال، بحر زاخر بكل ما تشتهيه الأنفس من المفاخر والفضائل، جواهر مكنونة وكنوز مدفونة لا تحتاج إلا إلى بحث واستخراج وصقل وإبراز. ولا نعلم قطرا من الأقطار قضي عليها بالتأخر والانحطاط يضاهي مغربنا في ذلك ولا يدانيه. فهل من الرشد أن نترك تلك الدرر كامنة ضائعة وهي ماهي؟ لو ظفرت بها أعظم الأمم اليوم لطارت قلوبها فرحا وبادرت إلى اجتلائها والتمتع بها. ثم نلتمس مُخشلب الأمم التي ليس لها عشر مالنا، قد ضللنا إذا وما كنا من المهتدين.
ثم تلت تلك الفاتحة مقالة الأستاذ عبد الخالق الطريس، فلا أقسم بمن خص المغرب بمفاخر ومزايا وخص أهله الكرام ـ ولا أبالي بأن يقال مادح نفسه يقرئك السلام ـ بشمائل وسجايا إن مقاله لم يعد ما في نفسي ولم يتجاوز ما يدور في خلدي منذ أشهر، وقد قرأت بعض تلك المقالات التي لم ترقه في مجلة الرسالة بالمصادفة، لأن مجلة الرسالة لا تتفق لي قراءتها إلا نادرا فساءني وكدرني ما جناه ذلك الشاب على الأدب والأدباء في المغرب. فإن المشارقة إذا قرأوا ما سطّره ازدادوا ضلالا وخطئا وجهلا بحال المغرب. وعذر ذلك الأخ أنه لم يخرج من المغرب بل لم يتجول حتى في المغرب نفسه ولم يعكف على مخلفات أدبائه وسمع الجعجعة الشرقية فتخيل أن وراءها جبلا من الطحن. ولو شاهدها كما شاهدناها ونظر إلى آثار مواطنيه بعين سالمة من غمط البضاعة الوطنية وإطراء البضاعة الخارجية وسلم من داء (مغنية الحي لا تطرب) لحقر ما عظم وعظم ما حقر
فليس الذي عظمته بمعظم ** وليس الذي حقرته بحقير
وماذا على أدباء المغرب وشعرائه إن لم يسمعوا قط خطبة طه حسين وحديثه في الشعر. أأجدبت أرض المغرب وهي أخصب الأراضي، وعقمت بلاد المغرب وهي الحسناء الولود فلم تنبت ولم تلد أحدا يفتق ذهنه وتنفجر فيه أنهار الشعر الفطري الصافي الذي لا يجيء بسماع الخطب ولا بتلقي الدروس ولا بتلقين الألفاظ؟ وهل بعث الله طه حسين رسولا بالشعر إلى الدنيا العربية وجعله خاتم أنبياء الشعر حتى أن أدباء المغرب وشعراءه إذا لم يسمعوا حديثه يبقون محرومين من الشعر؟ عفا الله عنك لقد حققت قول الحشاشين والجهلة أن المغرب بلاد برابرة ما عندهم ذوق ولا ظرف ولا أدب وأنهم عيال على غيرهم إلى غير ذلك من السخافات من حديث خرافة.
تذاكر الأديب الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي المغربي مع جماعة من المتأدبين في مصر فقال بعض جهلتهم: إن المغرب لا أدب فيه ولا شعر، ومن أين يكون لأهله أدب أو شعر وهم لا يحسنون العربية إلا شيئا لا يعبأ به. فأخذ ابن الأمين المقيم المقعد وقام مغضبا وعكف في بيته فكتب من حفظه مجلدا أسماه (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط). وهو فلك مشحون بالقصائد التي لم يوجد في المشرق من يقول مثلها من عهد الأمويين، وفيه من المطارحات والمساجلات والنكت واللطائف ما يبهر العقول ويترك المتبجح الشرقي غريقا في بحر الذهول، وانتصر بالحق لقومه ووطنه فنحيل أخانا الكاتب المغربي على ذلك الكتاب وهو ما حفظه أديب واحد من أدب ناحية واحدة من نواحي المغرب. وهو تحد لأهل المشرق لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بمثله أبدا. واسمع بل اقرأ ما ذكره في مقدمة الكتاب المذكور “وقد أَخبَرتُ بذلك (الأدب والشعر المغربي) بعض نبهاء المصريين فاستغرب ذلك، ظنا منه أن الآداب العربية لا يتصف بها غير الأقطار المشرقية فحدتني الحمية العصبية إلى نشر ذلك البز الدفين لينتشر في المغربين والمشرقين” فرحم الله أولئك الرجال الذين بنوا للمغرب مجدا مشمخرا يُبلِي ولا يَبْلَى. وحيا الله تلك الهمم العوالي. والمغرب في حاجة والله إلى أمثالهم من بناة المجد وأباة الضيم. وليس في حاجة إلى من يعقه ويغمط حقوقه ويسلبه من محاسنه ويلبسها غير من هي له.
إن طه حسين على تذبذبه في الأدب وفي الدين وفي كل شيء لا يدفع عن إلمامٍ بالأدب ومعرفة وذوق فيه. وقد سمعنا بعض محاضراته الأخيرة اتفاقا في (راديو) فوجدنا رأيه في الأدب العربي مطابقا لما عندنا وعند كل من درس الأدب وهم في المغرب كثير ولله الحمد. وملخص ذلك أن الأدب العربي اليوم كله أبتر ناقص لا يسمن ولا يغني من جوع، وقد بسط القول في ذلك ولم يزد على ما أقرره أنا يوميا، وهؤلاء أصحابي يشهدون بذلك. وتفسيره ما ذكرته منذ ثلاث سنين في مجلة الضياء الهندية: وهو أن أدب كل أمة تابع لها بغاية التدقيق في الرقي والانحطاط والقوة والضعف، ضرورة أن الأدب إنما هو تعبير وتصوير لأحوال الأمة وأفكارها والعبارة على قدر المعبر عنه. وكون اللغة العربية في زمان بني العباس وما قبله كانت لغة راقية ذات علم وأدب وحكمة بالغة لا يقتضي ولا يستلزم أن تكون اللغة العربية في القرن الرابع الهجري مثلها في زمان رقي أهلها وعنفوان مجدهم. لأن اللغة العربية العباسية ضاعت ولم يبق منها إلا كباقي الوشم في ظاهر اليد. أضف إلى ذلك أن اللغات كالحيوان والنبات لابد لها من تجدد ونمو وإلا ماتت. واللغة العربية من بعد القرن التاسع توقف تجددها ونموها فماتت ولن تحيا إلا بحياة أهلها. وليس هذا الموت الذي أصابها خاصا بقطر دون قطر فمثل ما أصابها في مراكش قد أصابها في مصر والشام والعراق والجزيرة، وكل هذه الأقطار تهم بالنهوض والتجديد وإحياء الأدب. والتوفيق بيد الله. وهذه الأقطار وإن اختلفت في عدد الأدباء أو الشعراء أو الكتاب أو الصحف والمجلات فإنها لا تختلف في هيأتهم وأحوالهم وقيمة منتوجاتهم. فصوت الحجاز وهي صحيفة أسبوعية تصدر في مكة تضاهي في الإنشاء والأدب جريدة الأهرام والبلاغ والجهاد والمقطم. ومجلة المغرب الجديد في مراكش والشهاب في الجزائر تساجلان مجلتي الهلال والمقتطف من الوجهة الأدبية، وليقس ما لم يقل على أن في المغرب من جواهر الأدب المكنونة ومواده الغزيرة التي لم تبرز حتى الآن ولعلها تبرز في المستقبل ما لا يوجد في أي قطر من أقطار لغة الضاد. فدواء المغرب في المغرب وطبيب المغرب هو المغرب. فواجب على الأديب المغربي في هذا العصر عصر العصبية والاعتداد بالنفس وتقديس القوميات والتنافس في ميدان المفاخرة أن لا يسرف في التواضع المفضي إلى إهانة النفس. وإذا فحش البياض صار برصا.
ونفسك أكرمها فإنك إن تهن ** عليك فلن تلقى لها الدهر مكرما
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم. وجاء في الحديث: ليس للمؤمن أن يذل نفسه، ذكره ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس. وقال تعالى “وأما بنعمة ربك فحدث” وفي الخبر التحدث بالنعم من شكرها. ومن أمثالنا المغربية: إذا اطلعنا على إيمان الناس حمدنا الله على إيماننا.
وقرأت في مجلة الرسالة أيضا ذات يوم مقالا لأخينا الأديب المصلح السعيد الزاهري الجزائري أحد الرجال العاملين ونزيل مدينة وهران حالا حدث فيه عن الغناء المصري وتأثيره في نفوس أهل الجزائر، وخص بالإطراء غناء أم كلثوم وبالغ في ذلك حتى ليخيل للقارئ أن سكان الجزائر ليسوا من أهل الشمال الأفريقي الذي له في الحضارة والفنون الجميلة أوفر نصيب، بل هم من أهل كوكو في جنوب إفريقية وأنهم لم يسمعوا قط غناء مطربا ولا صوتا عذبا ولا نغما حلواً ولا توقيعاً لذيذاً إلا بعد إنشاء (راديو) وسماع الغناء المصري. فساءني ذلك أيضا. والكلام في هذا البحث يستدعي مقالا برمته فلذلك سأوجز رأيي في كلمة قصيرة فأقول: ولدت الموسيقى العربية في بغداد ثم انتقلت إلى دمشق فالقاهرة وانتقلت أيضا إلى المغرب والأندلس. ثم انقرضت الحضارة العربية في الشرق بالتدريج وما جاء القرن العاشر الهجري حتى بدأ الاستعجام ينقص أطراف المشرق واختلط حابله بنابله.
أما المغرب فقد تضاءلت الفنون فيه تبعا لضعف دوله، ولكن لا شك أن الأندلس ازدهرت فيها العلوم والفنون في عنفوان شباب الدولة الأموية حتى فاقت المشرق في ذلك، وبقيت فيها المدنية العربية وآدابها وفنونها بعدما صوح نبتها وفني هشيمها في الشرق. وعند جهينة وهو المقري صاحب “نفح الطيب” الخبر اليقين. فعبقرية زرياب وتلامذته وتلميذاته لم تضع في الغرب العربي كما ضاعت عبقرية إسحاق الموصلي في الشرق. بل توارثها أهل المغرب بعد انقراض الدولة العربية في الأندلس ولا تزال علالة باقية منها في الديار المغربية حتى الآن. ويرحم الله الأديب النابغة أحمد بن فارس الشدياق فإنه لما أقام بتونس وسمع الغناء المغربي أعجب به غاية الإعجاب وسمع ما لم يكن يسمع في المشرق فأبدى إعجابه لحضرة الباي في ذلك العهد ومن كان يجالسه من الأدباء، وسألهم عن السبب في وجود تلك الإثارة من الموسيقى العربية السامية في المغرب، فأخبروه بما أجملناه من قبل واعترف بذلك وسلمه مع أنه نقاد كبير. انظر كتابه “كشف المخبا في أحوال أوربا”.
وأنا ليس لي علم بالموسيقى أصلا وقلما يتفق لي سماع الغناء، لأن مجالس الغناء في المشرق لا تسلم من المحظورات ولكنني سمعت منه في آلة الحاكي وفي آلة (راديو) ما يكفي لإبداء رأيي المتواضع. وهو أن الغناء الشرقي وفي مقدمته الغناء المصري ليس من الفن في قبيل ولا دبير ولا يتفاوت إلا في حسن الصوت. فإن قيل أنت قد شهدت على نفسك بالجهل التام بهذه الصناعة فمالك والحكم فيها؟ أقول نعم: ولكنني أعرف علم العروض وأظن أن علم العروض مقدمة لعلم الموسيقى. وقد سمعت غناء أهل المغرب فوجدت الخليل لا يشتكي منهم ولا يتألم لإنشادهم وأدائهم فإنهم يراعون المتحركات والسواكن بدقة ولاسيما أهل العلم منهم. وكذلك سيبويه لا يشتكي ولا يتذمر من خاصة المغنين من أهل المغرب. وسمعت غناء أهل المشرق فرأيتهم يُغضبون الخليل ويعيثون في أوزانه وتفاعيله مفسدين ولا يرعون فيها إلاًّ ولا ذمة. ومن لم يحسن الأداء الموافق للموازين فكيف يحسن ما هو أدق من ذلك، وهو أصوات الغناء ثقيلها وخفيفها وقصيرها وطويلها. ولي على ذلك دليل آخر، وهو: أن المغني المغربي لا يعطل عوده أو كمنجته في أثناء الغناء بل تبقى أنغامه على حالها كما تكون في فترات سكوته، وغاية الأمر أنه يخفض صوت الآلة حال إنشاده ويرفعه وقت سكوته، بخلاف المغني المشرقي فإنه لا يقدر أن يجمع بين الصوتين فإذا سكت وقع على أوتاره توقيعا موزونا وأما إذا أنشد فإنه يجعل نفسه في حل من نظم التوقيع وإنما يشغل آلته بتوقيع يجري على غير قصد ولا نظام. وليلحظ القارئ اللطيف هذا فإني أظن أنه سيوافقني. والمقصود هنا دعوة أهل وطني إلى الاقتصاد في مدح آداب غيرهم واحتقار آدابهم، وحثهم على ترك التقليل.
ولا أختم هذا المقال بدون أن أعترف بأن آلات النشر لا تزال ضئيلة في المغرب وفي كثير من الأقطار العربية. وقد سبقت في ذلك مصر ثم الشام سائر البلدان العربية سبقا بعيدا. ولذلك أسباب و (لعل لها عذرا وأنت تلوم). ولم يعجبني قط استعمال الحروف المشرقية.
وإني أدعو شباب المغرب وشيوخه إلى عمل حروف مغربية من الحديد تكون جميلة الشكل ظريفة مع حفظ مغربيتها. فعار على أهل المغرب أن ينبذوا حروفهم أو يبقوها حجرية ويستعيروا الحروف الشرقية. أليس لهم في الإمام اللغوي محمد محمود التركزي المغربي مصحح القاموس أسوة، فإنه انتصر للخط المغربي في القاهرة. وذلك أن طالبا مغربيا أزهريا تقدم للامتحان فنجح ونال أرقاما عالية إلا في الخط فإن درجته كانت نازلة لأن الممتحنين وهم مصريون طبعا، حكموا على خطه بأنه رديء، فانطلق إلى الإمام التركزي وشكا له ما أصابه من الغبن وأراه خطه فرآه جميلا، وعلم أن الممتحنين كانت حكومتهم غير مرضية فتوجه إلى تلميذه الإمام المصلح محمد عبده وكان في ذلك الوقت مفتيا للديار المصرية فأخبره بشكوى الطالب المغربي وكانت فيه حدة فقال له كيف حكم الممتحنون على خط هذا الطالب بالرداءة جهلا منهم والحال أن الخط المغربي أقرب إلى الخط الكوفي الذي هو الأصل من الخط الشرقي. فأمر محمد عبده الممتحنين بإعادة النظر ففعلوا وأنصفوا ذلك الطالب (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) ويناسب هذا أنني حين قدمت مصر من المغرب العزيز (عجل الله الأَوْبَة إليه في خير وعافية) سنة 1340هـ كنت أكتب استمارات البريد بالخط المغربي فيقول الكاتب: ما هذا؟ أكتبه بخط عربي. فعدلت عن الكتابة بالعربية إلى الفرنجية وكنت أعرف منها ما يكفي في مثل ذلك.
وأما استعمال الرموز الهندية وترك الرموز العربية المغربية فهو أدهى وأمر، فبارك الله في “المغرب الجديد” الذي نبذ التقليد واستعمل ما أنشأته أيدي سلفنا الصالح وهي حروف الغبارى التي لا تزال مجهولة عند أهل الشرق وينسبونها جهلا إلى الحروف اللاتينية يعنون الرومية وربما سموها انجليزية أو فرنسية.
وأضرب لهم مثلا آخر وذلك أن ملك حيدر أباد بالهند أنفق فيما بلغني 1.200.000 ألف ألف ومائتي ألف روبية في عمل حروف مطبعة هندية. ولو شاء أن يشتري حروفا من عمل أهل الشرق الأدنى لاقتصد وأبقى على مال كثير، وبلغني أنه اشير عليه بذلك فأجاب بأن قصده عمل حروف هندية ولا يبالي ما أنفق في بلوغه. هذا مع أن الفرق بين شكل الحروف الهندية والحروف المصرية قليل جدا، ولا كذلك الفرق بين الحروف المغربية والمصرية. وكذلك أهل البلاد الفارسية صنعوا حروفا عربية لها شكل خاص لا يختلف عن الحروف المستعملة في الشرق العربي إلا قليلا. لا يقال نحن وأهل الشرقي العربي أمة واحدة لغة وأدبا بخلاف أهل الهند وأهل فارس. لأنا نقول تمسكنا بآدابنا وتراث أسلافنا لا ينافي الوحدة الأدبية العامة. ولا ينبغي لنا أن نطالب الأقطار الأخرى بهجر أدبها الخاص وصبغتها الخاصة ونفرض عليهم تعميم أدبنا وصبغتنا، فكذلك لا ينبغي لهم أن يعاملونا بذلك، وفرق بين وحدة الثقافة وبين الفناء والإدغام. والتمس من إخواني الأدباء في الوطن المحبوب أن يصفحوا عما عسى أن يكون قد طغى به القلم. وحب الوطن والغيرة عليه لي خير شفيع.
البصرة
مجلة المغرب الجديد، العدد الرابع عشر، السنة الثانية، 15 ربيع الثاني عام 1355هـ / 5 يوليو 1936 م – ص: 73-77



